عن جَابِر بن عبد اللَّهِ، رضي الله عنهما، أَنَّهُ سمع رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول: (لَمَّا كذبتني قُرَيْشٌ، قُمْتُ في الحِجْرِ، فَجَلَا الله لي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عن آيَاتِهِ، وأنا أَنْظُرُ إليه) (صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء) بينت الحلقة السابقة أن المسجد الذي وضع في الأرض أولاً لعبادة الله هو المسجد الحرام، والذي تلاه في الوجود هو المسجد الأقصى المبارك، وبينهما (أَرْبَعُونَ سَنَةً).
وبين العلماء الأفذاذ كابن حجر العسقلاني أن المراد بقوله: (المسجد الأقصى) يعني مسجد بيت المقدس، قيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، ومسجد بيت المقدس يشارك المسجد الحرام في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات، بدليل الحث على شد الرحال إليهما، بالإضافة إلى المسجد النبوي، ووصف القرآن الكريم المسجد الحرام بالعتيق، أي القديم؛ لأنه أول بيت وضع للناس، وتعرضت الحلقة كذلك إلى أهمية الرباط في المسجد الأقصى المبارك، كونه يعاني من الأسر، والكيد، والتدنيس، والمرابطون فيه يواجهون المصاعب، بل المخاطر على أنفسهم خلال شدهم الرحال إليه، ومكوثهم فيه، والدخول إليه والخروج منه، والرباط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً، فارساً كان أو راجلاً، واللفظة مأخوذة من الربط. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة، فالذي يشد رحاله؛ ليعتكف، أو يصلي، أو يكثر سواد المسلمين في المسجد الأقصى مرابط، يرجى أن ينال ثواب المرابطين، الذين عُدَّ رباطهم يوماً وليلة خير من الدنيا وما عليها.
مكانة المسجد الأقصى المبارك في الإسلام
حديث جابر بن عبد الله المثبت نصه أعلاه، تعاضده أحاديث صحيحة أخرى، تؤكد أن بيت المقدس هو الذي كان الإسراء إليه، ومن تلك الأحاديث الصحيحة حديث أَنَسِ بن مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وهو دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قال: فَرَكِبْتُهُ حتى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قال: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ التي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. قال: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فيه رَكْعَتَيْنِ) (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى السماوات وفرض الصلوات)، وحديث ابن عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا التي أَرَيْنَاكَ إلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}(الإسراء:60) قال: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) (صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج)
وتأكدت عناية الإسلام ببيت المقدس، باعتماده قبلة أولى للصلاة، فعن الْبَرَاء، رضي الله عنه، قال: (صَلَّيْنَا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أو سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صَرَفَهُ نحو الْقِبْلَةِ) (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة، باب {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا} (البقرة: 148))
وأطلق البخاري في صحيحه على بَاب عنوانه: مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وفيه عن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (...ولا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي) (صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس)
فهذه الأدلة واضحة في إثبات مكان المسجد الأقصى المبارك في بيت المقدس.
رد على لغط ووهم يتعلق بمكان وجود المسجد الأقصى المبارك الذي أسرى الله بعبده إليه
الأدلة سالفة الذكر تدحض الآراء الشاذة التي يروج لها بعض الناس، من أن وجهة الإسراء كانت منطقة في الطائف في الجزيرة العربية، وآية الإسراء أخبرت أن الله أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والأحاديث الصحيحة، تثبت صراحة أن الإسراء كان إلى بيت المقدس، ولا يظن أن أحداً صاحب رأي معتبر، يمكن أن ينفي أن بيت المقدس، هو الذي يطلق عليه مسمى مدينة القدس، التي تحتضن المسجد الأقصى المبارك.
وتصدى للرد على المقولات المشبوهة المتعلقة بالتشكيك بحقيقة أن الإسراء تم إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، عدد من علماء المسلمين ومفكريهم، منهم الأستاذ محمد عمارة، رحمه الله تعالى، عضو مجمع البحوث الإسلامية ورئيس تحرير مجلة الأزهر سابقاً- الذي بين أن هذا الكلام قاله أستاذ يهودي اسمه "الدكتور موردخاي كيدار" وهو أستاذ في جامعة باريلان الصهيونية، وقال هذا الكلام في الكنيست الإسرائيلي في يوليو عام 2009 ، وقال إن القدس يهودية، وعلى المسلمين أن يحملوا أحجار قبة الصخرة إلى مكة؛ لأن المسجد الأقصى مكانه "الجعرانة" بين مكة والطائف، وكان يصلي فيه الرسول أحياناً ، وأحياناً أخرى في المسجد الأدنى القريب منه.
هذا الأستاذ اليهودي استضافته إذاعة "المستوطنين أمناء بناء الهيكل" ورددوا هذا الذي قاله "حسب قوله" وأضاف عمارة: إن كل علماء الإسلام، أجمعوا على أن أول مسجد بني في الإسلام هو مسجد "قباء" على مشارف المدينة .. والرسول في رحلته من مكة للطائف نعرف كيف استقبل، ولم يقل عاقل أو حتى نصف عاقل أنه قد بنى مسجداً في هذا المكان .. ويجب أن نفرق في حياتنا بين كاتب يصنعه العلم، وكاتب يصنعه الإعلام. (عن مقابلة نشرتها صحيفة نيسان الأردنية ـ في 2015-12-14 )
واجب المسلمين تجاه القدس والمسجد الأقصى
مع ما لبيت المقدس ودرته المسجد الأقصى المبارك من أهمية في دين الإسلام، وتاريخ المسلمين، فإن الواجب يقتضي الذود عنهما بالغالي والنفيس، ومن العار خذلهما بأي مستوى وصورة، ومن نصرتهما الفاعلة شد الرحال إليهما على وجه المؤازرة والمساندة، وتجنب التساوق مع المواقف التي تخدم المحتل الغاصب لهما، وفرق كبير وشاسع بين الناصرين والخاذلين، والله تعالى يقول: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105)
سائلين الله العلي القدير أن يهدينا لنفقه أسرار الربط بين المسجد الأقصى والمسجدين الحرام والنبوي، لنزداد يقيناً بلزوم التمسك بهذه المساجد وتوقيرها وتعظيمها، والذود عنها بالغالي والنفيس، في ضوء الحث على ذلك في القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
10 شعبان 1444هـ