.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يحث على شد الرحال إلى مسراه - الحلقة الثانية

==========================================================

عن أَنَسِ بن مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وهو دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قال: فَرَكِبْتُهُ حتى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قال: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ التي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، قال: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فيه رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ، عليه السَّلَام، بِإِنَاءٍ من خَمْر،ٍ وَإِنَاءٍ من لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فقال جِبْرِيلُ، صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ...)(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى السماوات، وفرض الصلوات)
تعرضت الحلقة السابقة إلى حث النبي، صلى الله عليه وسلم، على شد الرحال إلى ثلاثة مساجد، أحدها المسجد الأقصى المبارك، والربط العقيدي والتعبدي مميز بين هذه المساجد الثلاثة، فهو يتشارك مع المسجدين العظيمين في أنحاء الدنيا بحصر قصده معهما في شد الرحال تعبداً لله بذلك، مما يشير بوضوح وجلاء إلى عمق ارتباط هذه المساجد بعضها ببعض، وكان يمكن للإسراء أن يتم من جوار الكعبة المشرفة في مكة المكرمة إلى أي مكان في الدنيا، لكن اختيار المسجد الأقصى ليكون هو الجهة التي أسري بالنبي، صلى الله عليه وسلم، إليها هو أمر إلهي، ومن المحال أن يكون هذا الأمر الرباني قد تم دون قصد أو دون هدف، وحق للمسلمين والباحثين ومحللي الأحداث والوقائع أن يركزوا عند دراساتهم لهذا الحدث الرباني العظيم دائماً على سر هذا الربط بين هذه الأماكن المقدسة والعظيمة ذات التاريخ العريق.
وإضافة إلى ربط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام في حادثة الإسراء، وربطه به وبالمسجد النبوي في حصر شد الرحال تعبداً إليه وإياهما، فهناك وجه آخر للربط المقدس بين المسجد الأقصى في بيت المقدس، والمسجد الحرام في مكة المكرمة، يتمثل في أنه القبلة الأولى، والمسجد الحرام هو القبلة الثانية والأخيرة، فالمسلمون توجهوا في صلاتهم إلى بيت المقدس أولاً، ثم أمروا بالتوجه إلى الكعبة المشرفة، ولا تقبل صلاة من مسلم دون القيام بهذا التوجه، إلا في حالات استثنائية قاهرة أو طارئة، وخبر القبلتين مثبت في القرآن الكريم.
ركوب البراق في رحلة الإسراء
حديث أنس بن مالك المثبت نصه أعلاه يتضمن الإخبار عن وسيلة التنقل التي سخرها الله سبحانه لعبده ونبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، ليستخدمها في رحلة إسرائه من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، وتمثلت في البراق، الموصوف في الحديث الشريف بأنه دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، ويوضح الإمام العيني أموراً تتعلق بالبراق ووصفه واختياره للاستخدام في هذه الرحلة الميمونة، فيقول: إن قوله: (ثم أتيت) على صيغة المجهول أيضاً، فإن قلت ما الحكمة في أنه أتى بدابة، فلم لَم تُطوَ له الأرض؟ قلت: إنما فعل ذلك تأنيساً له بالعادة في مقام خرق العادة، وأيضاً أن الملك إذا طلب من يحبه يبعث إليه مركوباً، ووقع في خاطري أن طي الأرض يشترك فيه الأولياء، بخلاف المركوب الذي يقطع المسافات البعيدة براكبه، أسرع من طرفة العين، فإنه مخصوص بالأنبياء، عليهم السلام.(عمدة القاري:17/24)
(قال: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ التي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ)، ينسب النووي إلى صاحب التحرير قوله: أن المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، والله أعلم، وفي ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور، وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى، والله أعلم.(صحيح مسلم بشرح النووي:2/211)
وصف البراق
في رواية صحيحة عن أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال عن البراق: (يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عليه، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حتى أتى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ...)(صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج)
قوله: (يضع خطوه عند أقصى طرفه) أي نظره، أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره، ويؤخذ من ترك تسمية سير البراق طيراناً أن الله إذا أكرم عبداً بتسهيل الطريق له حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير أن لا يخرج بذلك عن اسم السفر، وتجري عليه أحكامه، والبراق من البريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البرق، لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سود، ولا ينافيه وصفه في الحديث بأن البراق أبيض؛ لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض.
ويحتمل أن لا يكون مشتقاً، قال ابن أبي جمرة: خص البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به؛ لأنه لم ينقل أن أحداً ملكه، بخلاف غير جنسه من الدواب، قال: والقدرة كانت صالحة لأن يصعد بنفسه من غير براق، ولكن ركوب البراق كان زيادة له في تشريفه، لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماشٍ، والراكب أعز من الماشي.(فتح الباري:7/206)
سائلين الله العلي القدير أن يهدينا لنفقه المزيد من أسرار الربط بين المسجد الأقصى والمسجدين الحرام والنبوي، لنزداد يقيناً بلزوم التمسك بهذه المساجد، وتوقيرها، وتعظيمها، والذود عنها بالغالي والنفيس، ونرجوه سبحانه أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من جوانب هذه القضية المميزة، في ضوء ما تضمنته بالخصوص آيات القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
26 رجب 1444هـ

تاريخ النشر 2023-02-17
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس