عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (إِنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَّتَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ).(صحيح البخاري)
بمناسبة قرب شد الحجاج الرحال لأداء مناسك الحج، اخترنا الحديث عن مواقيت الحج المكانية والزمانية، وبعض متعلقاتها، للتعرف عليها، والتأمل فيما يتيسر من دلالاتها، وذلك على النحو الآتي:
الارتباط الغالب للعبادات بالزمان والمكان
يربط الإسلام العبادات الرئيسة بالزمن، وأحياناً بالمكان، وأحياناً أخرى بهما معاً، فالصلاة {...كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً}(النساء:103) أي محدودة الأوقات.(التبيان تفسير غريب القرآن:1/173) ويبين الطاهر بن عاشور أن الموقوت: هو المحدود بأوقات، والمنجم عليها، وقد يستعمل بمعنى المفروض على طريق المجاز، والأول أظهر هنا.(التحرير والتنوير:4/244)
وكل صلاة من الصلوات الخمس لها موعد زماني للبدء والانتهاء، والصيام يؤدى في شهر زماني محدد ببداية ونهاية، والزكاة مرتبطة بالحول الزماني، وهكذا الحج له ميقات زماني يؤدى فيه، وذلك في أشهر الحج، ولمناسكه وشعائره ارتباط لازم بالمواعيد الزمانية، فهناك يوم التروية، ويوم عرفة، والإفاضة من عرفات، ويوم الحج الأكبر، وأيام الرمي، والتعجل فيها بترك يوم، أو التأخر بالرمي ثلاثة أيام، ما يشير إلى ارتباط واضح بين الحج بكليته، ومناسكه وشعائره بالزمن والمواقيت.
وكذلك بالنسبة إلى ارتباط العبادات في المكان، فالصلاة في المسجد جماعة مفضلة على غيرها، وصلاة الجمعة غالباً ما تكون في المساجد، وصلاة العيد والاستسقاء والكسوف والخسوف يحبذ أن تؤدى في المصليات، ومن السنة شد الرحال إلا ثلاثة مساجد بعينها، وهناك مراعاة للمكان عند رصد الهلال لتحديد بداية الصوم والانتهاء منه، في جانب وحدة المطالع بين الأماكن والبقع الجغرافية المترابطة ببعض في زمان ليلي أو نهاري، والزكاة يحبذ أن تؤدى للأقرب مكانياً لمؤديها من مستحقيها الفقراء والمساكين والغارمين، والحج يرتبط شرعاً بمواقيت مكانية، وتؤدى شعائره في أماكن مخصصة بعينها، فالطواف يكون حول الكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، وركن الحج الأكبر يكون في عرفة المحددة بحدود مكانية معينة، والإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام في مزدلفة، ورمي الجمرات يكون في مواضع محددة في منى، ما يعني أن الحج مرتبط أداؤه بأماكن مخصصة ومحددة، يلزم الحاج بأداء حجها فيها دون سواها.
المواقيت الزمانية للحج
للحج مواقيت زمانية محددة، حيث يؤدى في أشهر الحج، لقوله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ...} (البقرة:197) قال بعض العلماء، ومنهم الإمام مالك، إن أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملاً، ومن تبرير اعتبار ذي الحجة كاملاً، أن الأشهر جمع، وأقل الجمع ثلاثة.(فتاوى عطاء في الحج:1/72)
وقَالَ ابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ)(صحيح البخاري)
أما العمرة، فيمكن أن تؤدى في أي وقت من العام، حتى في أشهر الحج، لا فرق في ذلك بين أن ينوي الحج في عامه، أو لا ينوي ذلك.
وقد اعتمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أربع مرات، كلهن في شهر ذي القعدة، وهو من أشهر الحج، ولم يحج إلا مع عمرته الأخيرة في حجة الوداع.
وإذا أداها في أشهر الحج وحج بعدها من عامه فهو متمتع بالعمرة إلى الحج، وإذا أداها مع حجه كان قارناً بين الحج والعمرة.(موقع الإسلام سؤال وجوابhttps://islamqa.info/ar/)
مواقيت الحج المكانية
ينص حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، المثبت نصه أعلاه، على تحديد المواقيت المكانية للحج والعمرة، حيث لا يجوز للحاج القادم من أي جهة من الجهات المذكورة في هذا الحديث أن يتجاوز الميقات المكاني المحدد دون أن يكون محرماً للحج، ويسري هذا الحكم على القادم لأداء العمرة، فعن زَيْد بْن جُبَيْرٍ (أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي مَنْزِلِهِ، وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ، فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ).(صحيح البخاري)
فعبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، ذكر لزيد بن جبير مواقيت مكانية حددها الرسول، صلى الله عليه وسلم، للقادمين لأداء الحج من جهات مكة المختلفة، ما يعني لهم لزوم التقيد بالإحرام للحج أو العمرة قبل العبور من المواقيت المكانية باتجاه البيت الحرام، حتى إن الذي يكون في مكة من غير ساكنيها، ويريد إنشاء اعتمار، عليه أن يخرج لأقرب ميقات مكاني ليحرم منه، ويدخل مكة محرماً، وفق ما جاء في حديث عَائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ).(صحيح البخاري)
يبين السندي أن إحرام عائشة بالعمرة من التنعيم؛ لأنها ما كانت مكية حقيقة، فيجوز أن يكون ميقات مثلها التنعيم للعمرة، وإن كان ميقات المكي مكة نفسها، وكذا يجوز إحرامها من التنعيم؛ لأنها أرادت المساواة لسائر المعتمرين في ذلك السفر.(حاشية السندي على صحيح البخاري:1/217)
ويوضح النووي معنى ما حصل لعائشة هنا، فيقول بأنها أرادت أن يكون لها عمرة منفردة عن الحج، كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة، وأتموا العمرة، وتحللوا منها قبل يوم التروية، ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية، فحصلت لهم عمرة منفردة، وحجة منفردة، وأما عائشة فإنما حصلت لها عمرة مندرجة في حجة بالقران.(صحيح مسلم بشرح النووي:8/140)
ويبين العيني أن قوله: (فَأَعْمِرْهَا) بقطع الهمزة، أمر من الإعمار، وقوله: (فَأَحْقَبَهَا) أي أردفها، أي أحقب عبد الرحمن عائشة، ومنه سمي المردف الحقب، والمحقب حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:14/199)
وصف الميقات المكاني بـ (مُهَل)
وصف الميقات المكاني بـ (مُهَلُّ) كما في حديث سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: (مُهَلُّ أَهْلِ المَدِينَةِ ذُو الحُلَيْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّأْمِ مَهْيَعَةُ - وَهِيَ الجُحْفَةُ - وَأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ).(صحيح البخاري)
وفي صحيح البخاري: بَاب مُهَلِّ أَهْلِ الشَّأْمِ، وبَاب مُهَلِّ مَنْ كَانَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ.
يبين النووي معنى (مُهَلّ) هنا، فيقول: هو بضم الميم، وفتح الهاء، وتشديد اللام، أي موضع إهلالهم.(صحيح مسلم بشرح النووي:8/85)
الصلاة بذي الحليفة
ورد عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يصلي تطوعاَ بذي الحليفة، كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَفْعَلُ ذَلِكَ).(صحيح البخاري)
ومعنى (أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ) أي ناقته، والأبطح كل مكان متسع (التي بِذِي الحُلَيْفَةِ) قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة.(عون المعبود:6/26)
ويبين العيني أنه إنما قيد بهذا لأن في مكة أيضاً بطحاء، وبذي قار أيضاً بطحاء، وبطحاء أزهر، فهذه أربعة، وبطحاء أزهر نزل به في بعض غزواته، وبه مسجد، وهذه البطحاء المذكورة هنا يعرفها أهل المدينة بالمعرس، وأناخ بها في رجوعه من مكة إلى المدينة، وقال بعضهم: نزوله فيهما يحتمل أن يكون في الذهاب، ويحتمل أن يكون في الرجوع، ويؤيده حديث ابن عمر الذي بعده، بلفظ: (وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ) ويمكن الجمع بأنه كان يفعل الأمرين ذهاباً وإياباً.
ويقول العيني: اعلم أن النزول بذي طوى قبل أن يدخل مكة، والنزول بالبطحاء التي بذي الحليفة، عند رجوعه، ليس بشيء من مناسك الحج، فإن شاء فعله وإن شاء تركه.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:15/364)
وعن القاضي أنه قال: والنزول بالبطحاء بذي الحليفة في رجوع الحاج ليس من مناسك الحج، وإنما فعله من فعله من أهل المدينة تبركاً بآثار النبي، صلى الله عليه وسلم، ولأنها بطحاء مباركة. واستحب مالك النزول والصلاة فيه، وألا يجاوز حتى يصلي فيه، وإن كان في غير وقت صلاة مكث حتى يدخل وقت الصلاة فيصلي.(صحيح مسلم بشرح النووي:5/8)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ المُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ).(صحيح البخاري)
يبين ابن بطال هنا كذلك أن ليس خروجه على طريق الشجرة، ورجوعه من طريق المعرس، من سنن الحج. قال المهلب: وإنما فعل ذلك، والله أعلم، ليكثر عدد المسلمين في أعين المنافقين، وأهل الشرك، كما فعل في العيدين، ومبيته، عليه السلام، بذي الحليفة، عند رجوعه من الحج على قرب من الوطن، لتتقدم أخبار القادمين على أهليهم، فتأخذ المرأة على نفسها، وهو في معنى كراهيته، عليه السلام، للرجل أن يطرق أهله ليلاً من سفره، والله أعلم. (شرح صحيح البخاري لابن بطال:4/201)
فهذه وقفة تأملية عند الارتباط الغالب للعبادات بالزمان والمكان، وما تفرع من حديث عن المواقيت الزمانية للحج، ومواقيت الحج المكانية، وصف الميقات المكاني بـ (مُهَلّ)، والصلاة في الميقات، راجين الله العلي القدير أن ينفعنا وقارئي هذا المقال، لنزداد حرصاً على فهم ديننا، واتباع سنة نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
18 ذو القعدة 1446هـ