عن ابن عُمَرَ، رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (لن يَزَالَ الْمُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ من دِينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب منه)
يحذر الرسول الأسوة، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف هذا من ارتكاب جريمة من أشنع الجرائم وأبشعها وأظلمها، تلكم هي جريمة القتل، التي تزهق بها أرواح بريئة، وتسفك بها دماء أمر الله بحفظها وصونها، فمن الضرورات الخمس في ديننا الحنيف حفظ النفس، والله تعالى بكّت الذين يقتلون النفس بغير حق، بتضخيم حجم جنايتهم، وكأن مقترفها قتل الناس جميعاً ، فقال عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ...} (المائدة:32)
معلوم أن هذا التنفير من جرائم القتل، جاء تعقيباً على حادثة القتل الأولى في تاريخ البشرية، التي قتل خلالها أحد ابني آدم أخاه، ومن اللافت للانتباه، أن النفس المقتولة أو المحياة، المذكورة في الآية الكريمة ذكرت مطلقة، دون تقييد، مما يعني أنها تشمل أي نفس بشرية، سواء أكانت مسلمة أم غيرها، صغيرة أم كبيرة، من جنس الرجال أم النساء، فقتل النفس على إطلاقها بغير حق، يساوي وفق منطوق هذه الآية الكريمة ومفهومها الواضح قتل الناس جميعاً، وإحياؤها يعادل إحياء الناس جميعاً.
ومن أدلة تفظيع جريمة قتل غير المسلم دون حق، قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (من قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لم يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ من مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب إثم من قتل ذمياً بغير جرم)
ومن صور القتل المقيت الذي بكّت الله مقترفيه، إزهاق أرواح المولودة الأنثى، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (التكوير: 8-9)، إضافة إلى نهيه الشديد عن قتل الولد: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}. (الأنعام: 151)
تعظيم قتل النفس وإحيائها
يبين الرازي أن المراد من إحياء النفس تخليصها من المهلكات؛ مثل الحرق والغرق والجوع المفرط، والبرد والحر المفرطين. (التفسير الكبير، 11/168)
جاء في التسهيل لعلوم التنزيل: أن تمثيل قاتل الواحد بقاتل الجميع يتصور من ثلاث جهات:
إحداها: القصاص، فإن القصاص في قاتل الواحد والجميع سواء.
الثانية: انتهاك الحرمة، والإقدام على العصيان.
والثالثة: الإثم والعذاب الأخروي، قال مجاهد: وعد الله قاتل النفس بجهنم، والخلود فيها، والغضب واللعنة، والعذاب العظيم، فلو قتل الناس جميعهم لم يزد على ذلك، وهذا الوجه هو الأظهر؛ لأن القصد بالآية تعظيم قتل
النفس، والتشديد فيه؛ لينزجر الناس عنه، وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع، لتعظيم الأمر والترغيب فيه، وإن إحياءها هو إنقاذها من الموت، كإنقاذ الحريق، أو الغريق، وشبه ذلك، وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص. (التسهيل لعلوم التنزيل، 1/175(
ومن تفسير البيضاوي لتعظيم قتل النفس وإحيائها، حسب ما جاء في الآية الكريمة، أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى، والعذاب العظيم، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا؛ أي ومن تسبب في بقاء حياتها بعفو أو منع من القتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة، فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب، ترهيباً من التعرض لها، وترغيباً في المحاماة عليها. (تفسير البيضاوي، 2/319)
ويستخلص الزمخشري فائدة من تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب، فيقول: ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها؛ لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعاً، عظم ذلك عليه، فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها. (الكشاف، 1/661)
سفك الدم الحرام
الحديث الصحيح أعلاه يتماشى مع التنفير الشديد من القتل المتضمن في الآية الكريمة من سورة المائدة، ومعنى أن المؤمن لا يَزَالَ في فُسْحَةٍ من دِينِهِ، ما لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، أي يبقى في سعة، منشرح الصدر، وإذا قتل نفساً بغير حق صار منحصراً ضيقاً، لما أوعد الله عليه ما لم يوعد على غيره، وقوله: (من دينه) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية (من ذنبه)، فمعنى الأول أنه يضيق عليه دينه؛ بسبب الوعيد لقاتل النفس عمداً بغير حق، ومعنى الثاني أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه.(عمدة القاري، 24/31)
جاء في كشف المشكل: المعنى أنه في أي ذنب وقع كان له في الدين والشرع مخرج، إلا القتل فإن أمره صعب. (كشف المشكل، 2/590)
وعن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ، قال: (إِنَّ من وَرَطَاتِ الْأُمُورِ التي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فيها، سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ)(صحيح البخاري، كتاب الديات، باب منه)
فهذه وقفات مختارة عند ما تيسر ذكره من المنفرات الواضحة، والمسندة بالدليل الشرعي، من اقتراف جرائم القتل الظالم للنفس، المصونة من الاستباحة، وسفك الدم، عسى أن يكون في التذكير بها ذكرى وموعظة لكل من تسول له نفسه ارتكاب جرائم القتل، أو التشجيع عليها، أو المساهمة في التخطيط لها وتنفيذها، آملين متابعة الوقوف عند مزيد من هذه الوقفات المستنتجة من هدي القرآن الكريم، وحديث خاتم النبيين والمرسلين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
27 ذو الحجة 1442هـ