.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يحذر من اقتراف جرائم القتل - الحلقة الثالثة

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حتى يَأْتِيَ على الناس يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، ولا المَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ، فَقِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذلك؟ قال: الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ) (صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل...)
تم في الحلقة السابقة التحذير من الاقتتال، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، أمر في حجة الوداع باستنصات الناس لأمر مهم سيلقيه على سمعهم، فحذرهم من أن يرْجِعُوا بَعْدِه كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُهمْ رِقَابَ بَعْضٍ، فقتل المسلم للمسلم سواء على المستوى الفردي، أم الجماعي من خلال تناحر الفرق والفئات، مؤاده إلى تبوأ أسوأ مبوأ، لكن بعض المسلمين يبدو أن هذا التحذير لم يجد لديهم الصدى الشرعي المطلوب، بدليل استسهالهم قتل إخوانهم، والاقتتال معهم، في حروب يرعاها الشيطان، ويؤجج نارها الأشرار، وقد تخللت حجة الوداع خطبة للرسول، صلى الله عليه وسلم، نبه فيها إلى عظم حرمة الدماء، حيث شبه حرمتها بحرمة يوم النحر ، وشهر ذي الحجة الحرام، والبلد الحرام مكة المكرمة.
ومن أشد المنفرات من الاقتتال، إضافة إلى تحذير أطرافه من الرجوع إلى الكفر والضلال، حسب ما جاء في خطبة الوداع، أن مصير القاتل والمقتول سيكون النار، وذلك محمول على من استحل الاقتتال.

الْهَرْجُ من علامات الساعة
من علامات الساعة التي أخبر الرسول، صلى الله عليه وسلم عنها، انتشار الهرج، ولما سئل عن المراد بالهرج، بين أنه القتل، وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أعلاه، وصف عليه الصلاة والسلام، معلماً من المعالم الغريبة لحالة الهرج، مبيناً أن القاتل فيها لَا يَدْرِي فِيمَ قَتَلَ، ولا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ.
وفي روايات صحيحة أخرى ذكر الرسول، صلى الله عليه وسلم، الهرج مع أمور أخرى تحدث قبيل قيام الساعة، فقال: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ؛ وهو الْقَتْلُ الْقَتْلُ، حتى يَكْثُرَ فِيكُم الْمَالُ فَيَفِيضَ) (صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب ما قيل في الزلازل والآيات)
وقال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، قالوا: وما الْهَرْجُ؟ قال: الْقَتْلُ الْقَتْلُ) (صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل)
وعن أبي مُوسَى، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إِنَّ بين يَدَي السَّاعَةِ أياماً يُرْفَعُ فيها الْعِلْمُ، وَيَنْزِلُ فيها الْجَهْلُ، وَيَكْثُرُ فيها الهَرْجُ، وَالهَرْجُ القَتْلُ) (صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ظهور الفتن)
فهذه الروايات وغيرها مما أخرج الإمام البخاري في صحيحه، تجمع على إطلاق مسمى الهرج على القتل، جاء في عمدة القاري أن الهرج الفتنة والاختلاط، وأصل الهرج الكثرة في الشيء، وهرج القوم في الحديث إذا أفاضوا فيه فأكثروا، وقال ابن دريد: الهرج الفتنة في آخر الزمان، وقال القاضي: الفتن بعض الهرج، وأصل الهرج والتهارج الاختلاط والقتال. (عمدة القاري 2/92، بتصرف)
وإن انتشار القتل وكثرته، يدل على قرب قيام الساعة، ومن الأمور التي ذكرت بهذا الصدد إضافة إلى الهرج، ظهور الفتن، ورفع العلم، ونزول الجهل، وكثرة المال بين الناس، وكثرة الشح، وكثرة الزلازل، فهذه الأمور مما يطلق عليه في علم العقيدة علامات الساعة الصغرى، التي توطئ لها، والمهم هنا التركيز على أن اتساع نطاق القتل، وانتشاره في أوساط الناس، حتى يصل بهم الحال أن يجهل فيه القاتل فيم قَتَل، والمقتول لا يعرف لم قُتِل، وهو ما ينبغي التحذير منه، أو الانخراط فيه، لأنه حال سيء، وتبعاته وخيمة.

اقتتال فئتين عظيمتين
من الروايات الصحيحة الجامعة التي توسعت في سرد المزيد من علامات الساعة الصغرى، وفصلت في حيثياتها، ما رواه أبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبٌ من ثَلَاثِينَ، كلهم يَزْعُمُ أَنَّهُ رسول اللَّهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ، وهو القَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُم المَالُ، فَيَفِيضَ، حتى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ من يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عليه، فَيَقُولَ الذي يَعْرِضُهُ عليه: لَا أَرَبَ لي بِهِ، وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ الناس في الْبُنْيَانِ، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فيقول: يا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا، فإذا طَلَعَتْ وَرَآهَا الناس -يَعْنِي آمَنُوا أَجْمَعُونَ- فَذَلِكَ حين لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لم تَكُنْ آمَنَتْ من قَبْلُ، أو كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وقد نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فلا يَتَبَايَعَانِهِ ولا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وقد انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ، فلا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وهو يُلِيطُ حَوْضَهُ، فلا يَسْقِي فيه، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وقد رَفَعَ أُكْلَتَهُ إلى فيه فلا يَطْعَمُهَا) (صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب خروج النار)
فهذا الحديث الجامع المخبر عن غيب مستقبلي، يتضمن ذكراً لاقتتال دال على قرب قيام الساعة، حيث يقع هذا الاقتتال العظيم بين فئتين عظيمتين، دعوتهما واحدة، قيل: الفئتان الخوارج، وعلي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وقوله: (دعوتهما واحدة) أي يدعيان الإسلام، ويتأول كل منهما أنه محق. (عمدة القاري، 24/215)
وقد لا ينحصر الإخبار عن اقتتال الفئتين العظيمتين على ذلك الحادث التاريخي المأساوي، إذ قد يكون المقصود غيره، والله أعلم.
أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونجانا سبحانه من شر القتل والاقتتال المبغوضين، راجين المولى جل في علاه أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من المنفرات عن الهرج، المستنتجة من هدي القرآن الكريم، وحديث خاتم النبيين والمرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
11 محرم 1143هـ

تاريخ النشر 2021-08-20
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس