عن عَلْقَمَةَ بن وَائِلٍ عن أبيه، قال: (أُتِيَ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، بِرَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا، فَأَقَادَ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ منه، فَانْطَلَقَ بِهِ، وفي عُنُقِهِ نِسْعَةٌ يَجُرُّهَا، فلما أَدْبَرَ، قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ، فَأَتَى رَجُلٌ الرَّجُلَ، فقال له مَقَالَةَ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَخَلَّى عنه) (صحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب صحة الإقدار بالقتل وتمكين ولي القتيل من القصاص واستحباب طلب العفو عنه)
بينت الحلقة السابقة أن من علامات الساعة انتشار الهرج، وهو القتل، ومن المعالم الغريبة لحالة الهرج، أن لَا يَدْرِي القاتل فِيمَ قَتَلَ، ولا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ، وفي روايات صحيحة ذكر الهرج مع أمور أخرى تحدث قبيل قيام الساعة، ضمن ما يطلق عليه في علم العقيدة علامات الساعة الصغرى، منها ظهور الفتن، ورفع العلم، ونزول الجهل، وكثرة المال بين الناس، والشح، والزلازل، والمهم هنا التركيز على أن اتساع نطاق القتل وانتشاره في أوساط الناس، يعني لزوم التحذير منه، ولزوم تجنب الانخراط فيه، لأنه حال سيء، وتبعاته وخيمة.
وبعض الروايات الصحيحة الجامعة بهذا الصدد توسعت في سرد المزيد من علامات الساعة الصغرى، وفصلت في حيثياتها، وأخبرت عن اقتتال فئتين عظيمتين، بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، أي يدعيان الإسلام، ويتأول كل منهما أنه محق.
فضل العفو والصفح عن القاتل
حديث علقمة أعلاه، يظهر دور التوجيهات الدينية في تعديل سلوك المسلم حتى في أحلك الساعات، وأصعب الظروف، فلما ذكر ولي المقتول بحديث القاتل والمقتول في النار، عفا عنه، تحرزاً عن مصير المقتتلين، وفي القرآن الكريم ترغيب عام في العفو والصفح، حيث يقول جل شأنه: {...وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التغابن:14)
فمعاني العفو والصفح، وانتظار المثوبة من الله على التحلي بهما، تُحدث في نفوس الناس أثراً إيجابياً يدفع إلى التراحم وإفشاء المحبة والسلام في أوساط المجتمع المسلم، عوضاً عن عقلية التعصب المقيت للعائلة أو القرابة، وممارسة الثأر المشؤوم، والذي في كثير من الأحوال يذهب ضحيته أبرياء، لا ناقة لهم ولا جمل، فيما سلف من جرائم، اقترفها أقارب لهم.
القصاص في القتلى
موقف الإسلام العادل والحكيم من جرائم القتل، يفضي إلى تضييق نطاقه، وإشفاء غليل أولياء الدم، فالله شرع القصاص من القاتل بضوابط تضمن تحقيق العدالة بصرامة وحزم، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة:178)
فهذه الآية الكريمة المتضمنة تشريع القصاص، لم تترك قيم العفو والمعروف والإحسان مغفلة، بل حثت عليها، فبعد إقرار حكم القصاص، أشارت إلى العفو، والاتباع بالمعروف، والأداء بإحسان، وقد جاء في التسهيل لعلوم التنزيل، أن هذه الآية فيها تأويلان:
أحدهما: أن من قتل، عليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء المقتول اتباعه بها على وفاء، فعلى هذا {من} كناية عن القاتل، وأخوه هو المقتول أو وليه، و{عفي} من العفو عن القصاص.
وعلى الثاني أن من أعطيته الدية فعليه اتباع المعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا {من} كناية عن أولياء المقتول، وأخوه هو القاتل أو عاقلته، و{عفي} بمعنى يسر، كقوله: خذ العفو، أي ما تيسر.
{ذلك تخفيف} إشارة إلى جواز أخذ الدية؛ لأن بني إسرائيل لم تكن عندهم دية، وإنما هو القصاص، {فمن اعتدى} أي قتل قاتل وليه، بعد أن أخذ منه الدية، {عذاب أليم} القصاص منه، وقيل: عذاب الآخرة. (التسهيل لعلوم التنزيل، 1/70)
القتل أنفى للقتل
من وسائل حصر الاقتتال والقتل في أضيق نطاق، وأقل خسائر وبخاصة في مجال الأرواح، وسفك الدماء، القصاص من القاتل، وبهذا الصدد يقول جل شأنه، مبيناً حكمة عظيمة من حكم القصاص وثمراته: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)، وقد يتساءل بعض الناس عن كيفية تحقق الحياة في القصاص؟! والواقع يجيب عن هذا التساؤل، إذ إن قتل القاتل بموجب القصاص، يموت فيه اثنان على أبعد تقدير، المقتول الأول ظلماً وبغير حق، وقاتله بالقصاص، وفي حالات كثيرة ينتج عن المساعي الحميدة والمواعظ، دور فاعل في تقليص عدد المقتولين من خلال الوصول إلى عفو ولي الدم، بإرادته ورغبته وقناعته، وسواء قتل القاتل بالقصاص، أم عفي عنه، فإن القصاص يفضي للسيطرة على جرائم القتل، وحصرها في نطاق ضيق، دون أن يترك الناس للفلتان وثورة الدم والثأر على طريقة أهل الجاهلية، وقد صدق من لخص هذه الحكمة العملية بثلاث كلمات: "القتل أنفى للقتل" فقتل القاتل بالقصاص يقطع دابر الاسترسال في القتل، ويقلل من عدد القتلى بسببه، والإسلام يعيد الناس بتشريع القصاص إلى التعقل، والتبرؤ من أحوال الجاهلية، التي من أركان ثقافتها التعصب للقبيلة والقرابة، كما عبر عن ذلك قائلهم:
وهل أنا إلا من غزية إن غـوت غويت، وإن ترشد غزيـة أرشد
وعلى العكس من هذه القيم، حذر الرسول، صلى الله عليه وسلم، من التعصب المقيت، ناهياً عنه بأشد تعبير، فقال: (دعوها فإنها خبيثة) (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوة الجاهلية)، وقال: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة المنافقون، باب: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}...)
ولن يخفى على متدبر ما تعنيه معاني الخبث والنتن في مجال التنفير والاستقذار، فالذي يرفضهما سيرفض العصبية، والذي يقع في حبالها وشركها، سيقع في وحل الخبث والنتن شاء أم أبى، ومن أشد سلبيات هذا الوحل الدمار الذي سيلحق بالبيئة المحيطة، والكراهية والبغضاء التي ستحل محل المحبة المرغب في سيادتها البيئات المجتمعية المتجانسة بالإيمان، عملاً بتوجيهاته، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حتى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ على شَيْءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان وأن إفشاء السلام سبباً لحصولها)
أعاذنا الله من العصبية الخبيثة والنتنة، التي بسببها تراق دماء بريئة، وتزهق أرواح مصونة، راجين أن ييسر الله متابعة الحديث عن التحذير من اقتراف جرائم القتل، وأن يهدينا سبحانه، إلى العمل الدائم بكتابه، وسنة نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
18 محرم 1443هـ