عن عبد اللَّهِ، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله، وَأَنِّي رسول اللَّهِ، إلا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، والمارق من الدين، التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ) (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {النفس بالنفس} (المائدة: 45))
بينت الحلقة السابقة أن ولي المقتول بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، بموجب الحق الذي منحه إياه الرسول، صلى الله عليه وسلم، بقوله: (وَمَنْ قُتِلَ له قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ...) فهو بالخيار بين أن يعفو ويأخذ الدية، أو يقتص، واختلف العلماء في اشتراط قبول القاتل باختيار الدية من قبل ولي المقتول، فبعضهم اشترط ذلك دون بعض، والمشترطون يقولون بأنه ليس لولي المقتول في القتل العمد إلاَّ القود أو العفو، واحتجوا بما ثبت في الحديث الصحيح أن الذي يجب بكتاب الله، وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في العمد هو القصاص؛ لأنه لو كان للمجني عليه الخيار بين القصاص وبين أخذ الدية، إذاً لخيره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولما حكم لها بالقصاص بعينه، واحتج الذين لم يشترطوا قبول القاتل بالدية، بالحديث المذكور آنفاً، والذي خير ولي المقتول بين القصاص أو الدية.
النهي عن الإسراف قي القتل
تجلى التوازن في التشريع الإسلامي بين مصالح العباد، ومراعاة حقوقهم وواجباتهم، في نهي أولياء المقتول عن الإسراف والمبالغة الظالمة في القتل من ذوي القاتل، بالتزامن مع تشريع القصاص من القاتل، فقال عز وجل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (الإسراء:33)
فقد نهى الله عن أن يسرف ولي المقتول، بأن يقتل غير قاتل وليه، أو يقتل اثنين بواحد، وغير ذلك من وجوه التعدي.(التسهيل لعلوم التنزيل، 2/171)
فقتل غير القاتل إثم وجريمة نكراء، تتقاطع مع قيم الباطل وأخلاق الجاهلية المنكرة، فعن الحسن وابن زيد، قالا: كانت العرب في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم حتّى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فيعمد ولي المقتول إلى الشريف من قبيلة القاتل فيقتله بوليه، ويترك القاتل، فنهى الله عن ذلك. (تفسير الثعلبي، 6/97)
إثم سفك الدم الحرام
يبين الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف أعلاه، أن دم المسلم محرم سفكه، إلا بسبب من ثلاثة، وهي: القصاص، واقتراف المحصن جريمة الزنا، وترك الدين والجماعة، مما يعني أن إباحة إزهاق روح المسلم تنحصر في مجالات ضيقة، والله جل في علاه، أمر بصون النفس عن القتل بغير حق، فقال عز وجل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ...} (الإسراء:33)
وقتل النفس بغير حق من السبع المهلكات، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ التي حَرَّمَ الله إلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يوم الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ) (صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى...} (النساء: 10))
ولخطورة قتل النفس بغير الحق، فقد برز التأكيد على لزوم تجنب اقترافه، في بيعة العقبة الأولى التي عقدت مع فريق الأوس والخزرج، فعن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ، رضي الله عنه، أَنَّهُ قال: (إني من النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وقال: بَايَعْنَاهُ على أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شيئاً، ولا نَسْرِقَ، ولا نَزْنِيَ، ولا نَقْتُلَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ الله، ولا نَنْتَهِبَ، ولا نَعْصِيَ، بِالْجَنَّةِ إن فَعَلْنَا ذلك، فَإِنْ غَشِينَا من ذلك شيئاً كان قَضَاءُ ذلك إلى اللَّهِ) (صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب دخول الأنصار إلى النبي، صلى الله عليه وسلم)
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لن يَزَالَ الْمُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ من دِينِهِ، ما لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} (النساء: 93))
ويقول: (إِنَّ من وَرَطَاتِ الْأُمُورِ التي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فيها، سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ(صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} (النساء: 93))
ويقول كذلك: (أَوَّلُ ما يُقْضَى بين الناس في الدِّمَاءِ) (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} (النساء: 93))
توبة القاتل
من خصال المؤمن القرآنية، تجنبه قتل النفس المحرمة، ففي سياق بيان صفات المؤمنين النبيلة، ومكارمهم الحميدة، أنهم لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، حيث يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ...} (الفرقان:68)
والذي يقترف جريمة القتل بغير حق يبقى على خطر عظيم، إلا إذا يسر الله التوبة النصوح قبل وفاته، فعن ابن عَبَّاسٍ: (أَنَّ نَاسًا من أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا، صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ الذي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مع اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ الله إلا بِالْحَقِّ ولا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَامًا} وَنَزَلَ: {يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ اللَّهِ)(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج)
وبهذه الوقفات عند ما تيسر ذكره ومناقشته من تبعات قتل النفس التي حرم الله إزهاق روحها بغير حق، نختم الحديث عن هذه القضية بالغة الأهمية والخطورة، حسب ما استنبط من هدي القرآن الكريم، وحديث خاتم النبيين والمرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
3 صفر 1443هـ