.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يحذر من بهت الناس - الحلقة الثالثة

==========================================================

عن ابن عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قال: (شَهِدْتُ الصَّلَاةَ يوم الفِطْرِ مع رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قبل الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ، فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إليه حين يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بيده، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ، حتى أتى النِّسَاءَ مع بِلَالٍ، فقال: {يا أَيُّهَا النبي إذا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ على أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شيئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ ولا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بين أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} حتى فَرَغَ من الْآيَةِ كُلِّهَا ثُمَّ قال حين فَرَغَ: أَنْتُنَّ على ذلك؟ وقالت امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ـ لم يُجِبْهُ غَيْرُهَاـ نعم يا رَسُولَ اللَّهِ، ـ لَا يَدْرِي الْحَسَنُ من هِيَ ـ قال: فَتَصَدَّقْنَ، وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ، وَالْخَوَاتِيمَ في ثَوْبِ بِلَالٍ) (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة الممتحنة، باب {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك}(
ركزت الحلقة السابقة على بهتان أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، بالإفك المفترى، والذي لم ينطلق مبدأه سوى من عمل بمحظور شرعي، وإثم بَيّن، يتلخص في الاسترسال وراء الظنون، دون تمحيص، مما أوقع في انتهاك الحرمات، والمس بالأعراض، فنزلت آيات محكمات، فصلن في البهت وأبعاده، وأحكام الآخذين به، ووجهت المجتمع المؤمن برمته إلى المنهج القويم، الذي ينبغي اتّباعه في مثل ظرف الإفك، وعلى رأس مضامين هذا المنهج الحذر الشديد من التسرع في البهت، ونشر الإشاعات دون تثبت وتمحيص.
وما تعرضت له أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، من هذا الابتلاء، يمكن أن يتعرض له الناس بشكل أو آخر، لكن الفرق كبير بين الاسترسال مع موجات الأراجيف والظنون، وبين اتقاء الله في المواقف، وظَن المؤمنين حيالها بأنفسهم خيراً، والتصرف بالتأكيد سيختلف شكلاً ومضموناً وآثاراً وتداعيات بين الموقفين، مع التأكيد على أن بهت الناس لا يقتصر على جانب سلوكي دون سواه، ولا ينحصر بأناس دون غيرهم، بل يشمل جوانب الحياة على اختلاف أنواعها، ويتعلق بالمبهوتين والباهتين، بغض النظر عن أسمائهم وأنسابهم، وزمن وجودهم ومكانه، فهو إثم مفترى، جريمته نكراء.

مبايعة النساء على تجنب البهتان
حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، المثبت نصه أعلاه، يتضمن ذكر اقتباس من الآية الكريمة الثانية عشرة من سورة الممتحنة، التي خاطب فيها رب العزة نبيه الكريم محمداً، صلى الله عليه وسلم، ببنود مبايعة النساء، ومن تلك البنود الرئيسة، لزوم تقيدهن بتجنب إتيان البهتان المفترى، والذي فصلت الآية الكريمة في وصفه، وبيان مواضع اقترافه المحتملة، فألزمتهن بالامتناع عن البهتان الذي يكون بين الأيدي والأرجل، ويرى بعض المفسرين، ومنهم الرازي في التفسير الكبير، أن قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ} نهي عن النميمة، أي لا تنم إحداهن على غيرها فيورث القطيعة، ويحتمل أن يكون نهياً عن إلحاق الولد بأزواجهن، قال ابن عباس: لا تُلحق بزوجها ولداً ليس منه، قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وليس المعنى نهيهن عن الزنا؛ لأن النهي عن الزنا قد تقدم في الآية الكريمة. (التفسير الكبير، 29/267)
أما الزمخشري، فيقول: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هو ولدي منك، كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً؛ لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين. (الكشاف، 4/519)
وقد ذهب السعدي في تفسيره إلى أبعد من ذلك، فقال: البهتان الافتراء على الغير، أي لا يفترين بكل حالة، سواء تعلقت بهن مع أزواجهن، أو تعلق ذلك بغيرهم. (تفسير السعدي، 1/858)
فالبهتان والافتراء آفات سلوكية ينبغي لأسوياء الناس ذكوراً وإناثاً الترفع عنها والتحرز من الوقوع في وزرها.

ذم الافتراء
الشواهد من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على ذم الافتراء عديدة، منها قول رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ من أَعْظَمِ الْفِرَى، أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إلى غَيْرِ أبيه، أو يُرِيَ عَيْنَهُ ما لم ترَ، أو يقول على رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، ما لم يَقُلْ) (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب منه)
والفِرى بكسر الفاء والقصر، جمع فرية، وهي الكذبة العظيمة، التي يتعجب منها. (عمدة القاري، 24/168)
جاء في فيض القدير أن من أعظم الكذبات أن ينتسب الرجل إلى غير أبيه، فيقال ابن فلان، وهو ليس بابنه، (أو يُرِيَ عَيْنَهُ ما لم تره) أي ينسب الرؤية إلى عينه تارة، يقول: رأيت في منامي كذا، ولا يكون رآه؛ لأنه جزء من الوحي، فالمخبر عنه بما لم يقع كالمخبر عن الله مما لم يلقه إليه، وجمع الثلاثة في خبر لشدة المناسبة بينها، وأنها من أفحش أنواع الافتراء؛ فالكذب على المصطفى، صلى الله عليه وسلم، كذب على الله، وما ينطق عن الهوى، والرؤيا جزء من أجزاء النبوة، والمنام طرف من الوحي، فإذا كذب، فقد كذب في نوع من الوحي، ومن ادعى لغير أبيه، فقد استهزأ بنص القرآن، ويكفي في ذلك لعن امرأة إن أدخلت على قوم من ليس منهم. (فيض القدير، 2/534-535)
أعاذنا الله من البهتان والافتراء، ويسر سبحانه متابعة الوقوف عند مزيد من مناحي التحذير من البهت والافتراء، عملاً بتوجيهات ديننا الحنيف، ورسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
14 ذو القعدة 1442هـ

تاريخ النشر 2021-06-25
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس