.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يحذر من بهت الناس - الحلقة الخامسة

==========================================================

نفى الله عن رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، الفرية، فقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً} (الفرقان:4)
وقفت الحلقة السابقة عند مواضع من آيات التنزيل، التي تطرقت لذكر البهت ومرادفاته من الإفك والتخريص والكذب، وما شابه ذلك، ومن ذلك الآيات 8-12 من سورة الذاريات، التي ذُم فيها الخراصون، وذُكر فيها إفك أصحاب القول المختلف الذي يكذب بعضه بعضاً ويناقضه، ووقفت الحلقة كذلك عند إخبار القرآن الكريم عن تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم، كما في الآيات 221-223 من سورة الشعراء، حيث أُلصق بالإفك المذموم اسمٌ ووصفٌ، ذم شديد آخر، عبر عنه بلفظ (أثيم)، إضافة إلى أن أصحابه موجهون من الشياطين، وتم الاستدلال بروايتين صحيحتين عن عَائِشَةَ، رضي الله عنها، حول إفك الكهان الذين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقون منهم ظنوناً وأمارات؛ لنقصان علمهم، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم مِائَةَ كَذْبَةٍ من عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وتوعد الله الأفاكين بالويل، كما في الآية السابعة من سورة الجاثية، فالإفك آفة سلوكية مقيتة عمادها الكذب، وأصحابها في قلوبهم نفاق ومرض، يجدر الحذر منهم، وتجنب اقتفاء أثرهم.

دحض تهمة افتراء القرآن
زعم أهل الباطل أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، افترى القرآن، أي أنه من عنده، وليس من عند الله، وقد دحضت آيات قرآنية عديدة هذا الزعم الباطل، نافية عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذه التهمة المنكرة، والآية الكريمة الرابعة من سورة الفرقان، والمثبت نصها أعلاه، تبين أن الذين كفروا قالوا إن هذا القرآن كذب اختلقه محمّد، صلى الله عليه وسلم، وأعانه على افترائه قوم آخرون، قيل: اليهود، وقيل: أشخاص بأعيانهم. (أضواء البيان 6/13)
جاء في التفسير الكبير، أن الافتراء افتعال من فريت، ويقال: فيمن شتم امرءاً بما ليس فيه، افترى عليه.
والله تعالى وصف كلامهم بأنه ظلم، وبأنه زور، أما إنه ظلم؛ فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وذلك هو الظلم.
وأما الزور، فلأنهم كذبوا فيه، وقال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، والرد عليه، والزور كذبهم عليهم. (التفسير الكبير، 24/44)
وفي الآية التالية للمثبت نصها أعلاه من سورة الفرقان، إخبار عن افتراء آخر على القرآن الكريم، وعلى الموحى به إليه صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان:5)
وفي الكشاف: {أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ} ما سطَّره المتقدمون، من نحو أحاديث، جمع أسطار أو أسطورة، كأحدوثة، {اكْتَتَبَهَا} كتبها لنفسه وأخذها، وقرىء: اكتُتبها على البناء للمفعول، والمعنى اكتتبها كاتب له؛ لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام، فأفضى الفعل إلى الضمير، فصار اكتتبها إياه كاتب، كقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} (الأعراف: 155)، فإن قيل: كيف قيل اكتتبها فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ، وإنما يقال أمليت عليه فهو يكتتبها؟ وأجاب الزمخشري عن ذلك، فقال: فيه وجهان، أحدهما أراد اكتتابها أو طلبه، فهي تملى عليه، أو كتبت له وهو أمّي، فهي تملى عليه، أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها، لأنّ صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. (الكشاف، 3/269)
وقد رد الله على هذا الافتراء منهم، فقال سبحانه: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان:6)
يقول القرطبي: أي قل يا محمد، أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر، فهو عالم الغيب، فلا يحتاج إلى معلم، وذكر السر دون الجهر؛ لأنه من علم السر، فهو في الجهر أعلم، ولو كان القرآن مأخوذاً من أهل الكتاب وغيرهم، لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذاً منها، وأيضاً ولو كان مأخوذاً من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضاً، كما تمكن محمد، صلى الله عليه وسلم، فهلا عارضوه، فبطل اعتراضهم من كل وجه. (تفسير القرطبي، 13/4)

ظلم المفترين على الله
وصم الله المفتري عليه، ليس بالظلم فحسب، بل بمرتكب أشد الظلم، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:21) ، وتكرر وصم المفترين على الله الكذب بصيغة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى...} في تسع آيات قرآنية، موزعة على سبع سور، وفق الآتي:
السورة : الأنعام - الآية: 21
السورة : الأنعام - الآية: 93
السورة : الأنعام - الآية: 144
السورة : الأعراف - الآية: 37
السورة : يونس - الآية: 17
السورة : هود - الآية: 18
السورة : الكهف - الآية: 15
السورة : العنكبوت - الآية: 68
السورة : الصف - الآية: 7

ومن هذه الآيات الكريمة ما ربط الله فيها بشاعة ظلم المفترين عليه الكذب، بفظاعة تكذيبهم بما أنزل سبحانه من الآيات والكتاب، فقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:21) وتكرر ذكر هذا النسق باللفظ أو المعنى، أو بهما معاً، في خمس من الآيات التسع السابقة، وذلك على النحو الآتي:
السورة: الأنعام - الآية: 21
السورة: الأنعام - الآية: 93
السورة: الأعراف - الآية: 37
السورة: يونس - الآية: 17
السورة: العنكبوت - الآية: 68

أعاذنا الله من البهتان والافتراء والكذب، وتكذيب الحق، ويسر سبحانه متابعة الوقوف عند مزيد من مناحي التحذير من البهت والافتراء، عملاً بتوجيهات ديننا الحنيف، ورسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
28 ذو القعدة 1442هـ

تاريخ النشر 2021-07-09
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس