.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يحذر من بهت الناس - الحلقة الرابعة

==========================================================

يخاطب الله في قرآنه الكريم مكذبي رسوله، صلى الله عليه وسلم، فيقول عز وجل: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ* قُتِلَ الخَرَّاصُونَ} (الذاريات: 8-10)
تعرضت الحلقة السابقة لجانب من عقد مبايعة النساء الذي نصت عليه الآية الثانية عشرة من سورة الممتحنة، متضمنة شروط تلك المبايعة، ومنها لزوم تقيدهن بتجنب إتيان البهتان المفترى من بين الأيدي والأرجل، ومن أشهر تفاسير ذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك، وهو ليس ابنه، ويعتبر هذا الافتراء من أعظم الفرى، كما جاء في الحديث الصحيح.

يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
الحديث عن البهت ومرادفاته من الإفك والتخريص والكذب وما شابه ذلك، تطرق لذكره والإشارة إليه القرآن الكريم، في مواضع عديدة من آياته الكريمة، وفي الآية 9 من سورة الذاريات المثبت نصها أعلاه، ذكر لنوع من الإفك الممارس من الخراصين المذمومين في قوله تعالى: {قُتِلَ الخَرَّاصُونَ}، ويرى الزمخشري أن معنى القتل هنا أصله الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى لعن وقبح، والخرّاصون الكذابون المقدرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول المختلف، واللام إشارة إليهم، كأنه قيل قتل هؤلاء الخراصون. (الكشاف 4/400)
ويجزم صاحب أضواء البيان أن لفظة {عن} في قوله سبحانه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} سببية، كقوله تعالى: {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ...} (هود:53)؛ أي بسبب قولك ومن أجله، والضمير المجرور بعن راجع إلى القول المختلف، ومعنى: {يؤفك} أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله، {عنه} أي عن ذلك القول المختلف، أي بسببه، {من أُفك} أي من سبقت له الشقاوة في الأزل، فحرم الهدى، وأفك عنه؛ لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضاً ويناقضه، ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه، اختلافه وتناقضه، كما لا يخفى، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام، الذي يقول فيه بعضهم إن الرسول ساحر، وبعضهم يقول شاعر، وبعضهم يقول كذاب، ظاهر البطلان؛ لتناقضه، وتكذيب بعضه لبعض، فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل، فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر، لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه. (أضواء البيان، 7/438)


الأفاك الأثيم
ذم القرآن الكريم الأفاكين، فبين أنهم جهة مستقبلة لتعليمات الشياطين وتوجيهاتهم، فقال سبحانه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ* تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} (الشعراء: 221-223)
الأفاك مذموم باسمه ووصفه؛ لأن آفة الإفك هي مادتهما، فكيف إذا ما لصق بها ذم شديد آخر، المعبر عنه بلفظ أثيم، إضافة إلى أن أصحابه موجهين من الشياطين؟
يبين صاحب التسهيل لعلوم التنزيل: أن الأفاك الكذاب، والأثيم الفاعل للإثم، يعني بذلك الكُهان، وفي هذا رد على من قال إن الشياطين تنزلت على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، بالكهانة؛ لأنها لا تنزل إلا على أفاك أثيم، وكان صلى الله عليه وسلم، على غاية الصدق والبر. (التسهيل لعلوم التنزيل، 3/91)
فالأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقون منهم ظنوناً وأمارات؛ لنقصان علمهم، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها. (تفسير البيضاوي، 4/256)
وقد جاء في الحديث الصحيح عن عَائِشَةَ، رضي الله عنها، زَوْجِ النبي، صلى الله عليه وسلم، أنها سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إِنَّ المَلَائِكَةَ تَنْزِلُ في العَنَانِ، وهو السَّحَابُ، فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ في السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ، فَتُوحِيهِ إلى الْكُهَّان،ِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ من عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ). (صحيح البخاري)
وفي رواية صحيحة، أخرى قالت رضي الله عنها: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، نَاسٌ عن الكُهَّانِ، فقال: ليس بِشَيْءٍ، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يحدثونا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا؟ فقال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ الْكَلِمَةُ من الحَقِّ يَخْطَفُهَا من الْجِنِّيِّ، فَيَقُرُّهَا في أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ) (صحيح البخاري)
ويدرج تحت وصم الأفّاك الأثيم، الكذابون المفترون المزيفون للأمور والأخبار، وبخاصة ممن يبهتون الناس ويتهمونهم بالسوء ظلماً وعدواناً.
و
َيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
توعد الله الأفاك بالويل، فقال عز وجل: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (الجاثية:7)
والأفَّاك مبالغة من الإفك، وهو الكذب، والأثيم من الإثم، وقيل: إنها نزلت في النضر بن الحارث، ولفظها على العموم. (التسهيل لعلوم التنزيل، 4/38)
والويل يقال إنه واد في جهنم، ويميل صاحب أضواء البيان، إلى أن الأظهر أن لفظة: {وَيْلٌ} كلمة عذاب وهلاك، وأنها مصدر لا لفظ له من فعله، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة، كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك. (أضواء البيان، 7/190)
فالإفك آفة وزرها عظيم، وتداعياتها شديدة السلبية والوقع، وعماده الكذب، وهو وباء لأصحابه الخزي والعار في داري الدنيا والآخرة، والله عز وجل يقول في الأفاكين، ومن كان على شاكلتهم: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (البقرة:10(
أعاذنا الله من البهت والإفك، ومن الويل وجهنم وعذابها، ويسر سبحانه متابعة الوقوف عند مزيد من مناحي التحذير من البهت والإفك والافتراء، عملاً بتوجيهات ديننا الحنيف، ورسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
21 ذو القعدة 1442هـ

تاريخ النشر 2021-07-02
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس