عن عبد اللَّهِ، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فإن الصِّدْقَ يهدي إلى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يهدي إلى الجَنَّةِ، وما يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فإن الكَذِبَ يهدي إلى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يهدي إلى النَّارِ، وما يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله)
وقفت الحلقة السابقة عند دحض تهمة افتراء القرآن، وقد وصف الله بالظلم والزور كلام الكافرين الزاعمين، بأن القرآن كذب اختلقه محمّد، صلى الله عليه وسلم، وأعانه على افترائه قوم آخرون، ومثلهم الذين قالوا عن القرآن بأنه أساطير الأولين، وبينت الآيات القرآنية بشاعة المفترين على الله الكذب، مكررة ذمهم وتبكيتهم بصيغة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى...} في تسع آيات، وذلك في سبع سور، هي: الأنعام، والأعراف، ويونس، وهود، والكهف، والعنكبوت، والصف.
وفي سياق التحذير من بهت الناس، وعماده الكذب والافتراء، يأتي الحديث الشريف أعلاه، ليحث على تحري الصدق، ويحذر من الكذب، ويبين فضل الصدق، وقبح الكذب.
الحث على الصدق والتحذير من الكذب
يأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديث عبد الله بن مسعود المثبت نصه أعلاه، بتحري الصدق، وذلك بصريح العبارة، ووضوح المعنى، فيقول: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ)؛ أي الزموا القول الحق، وداوموا عليه، وهو ضد الكذب، وقد يستعمل في أفعال الجوارح، نحو صدق فلان في القتال، إذا أوفاه حقه. (شرح الزرقاني، 4/524)
والله تعالى أثنى على المؤمنين الذين صدقوا العهد مع الله، فقال سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب:23)
فالصدق المأمور به يشمل ما يصدر عن المرء من أقوال يلفظها لسانه، فينبغي أن توافق الحقيقة دون تزييف أو تزوير أو التواء، وكذلك يشمل أفعال الناس ومواقفهم، التي ينبغي كذلك أن تبتعد عن بهت الناس، وعن كل ما يتنافى مع قيم الحق، وواقع الحقيقة.
وفي الحديث نفسه تحذير واضح من آفة الكذب، وهو نقيض الصدق، فيقول عليه الصلاة والسلام: (وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ)، وفعل الأمر (إياكم) يفيد التحذير.
فضل الصدق ومنازل الصادقين
في ضوء الحديث أعلاه، يذكر النووي أن الصدق يهدي إلى العمل الصالح الخالص من كل مذموم، والبر اسم جامع للخير كله، وقيل البر الجنة، ويجوز أن يتناول العمل الصالح والجنة.
قال العلماء: هذا فيه حث على تحري الصدق، وهو قصده والاعتناء به، ويكتب الله المداوم على الصدق ومعتاده، بأنه صديق لمبالغته فيه. (صحيح مسلم بشرح النووي، 16/160)
وفي الحديث إشعار بحسن خاتمته، وإشارة إلى أن الصديق يكون مأمون العاقبة. (تحفة الأحوذي، 6/91)
وقد أمر الله المؤمنين بأن يبذلوا الجهود ليكونوا مع الصادقين، فقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة:119)
يقول الرازي: واعلم أنه تعالى لما حكم بقبول توبة الثلاثة الذين خلفوا، ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الجهاد، فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ...}، في مخالفة أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}يعني مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا متخلفين عنها، وجالسين مع المنافقين في البيوت. (التفسير الكبير، 16/175)
والصدق المأمور باتباع نهج أصحابه في هذه الآية الكريمة، يحتمل أن يراد به صدق اللسان، فالثلاثة الذين تاب الله عليهم بعد تخلفهم عن غزوة تبوك صدقوا، ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك، ويحتمل أن يراد منه أعم من صدق اللسان، وهو الصدق في الأقوال والأفعال والمقاصد والعزائم. (التسهيل لعلوم التنزيل، 2/87)
ذم الكذب والكاذبين
في مقابل الإشادة بالصدق، والثناء على الصادقين، يذم الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف أعلاه الكذب، ويبكت الكاذبين.
يقول النووي: وأما الكذب فيوصل إلى الفجور، وهو الميل عن الاستقامة، وقيل: الانبعاث في المعاصي، وفي هذا تحذير من الكذب والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه، فعرف به، وكتبه الله لمبالغته كذاباً إن اعتاده، ومعنى يكتب هنا يحكم له بذلك، فالمرء يستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين؛ إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظه من الصفتين في الملأ الأعلى، وإما بأن يلقي ذلك في قلوب الناس وألسنتهم، كما يوضع له القبول، والبغضاء، وإلا فقدر الله تعالى وكتابه السابق، قد سبق بكل ذلك، والله أعلم. (صحيح مسلم بشرح النووي، 16/160-161)
تمحيص الصادقين من الكاذبين
المواقف والابتلاءات تمحص الناس، وتظهر الحقائق، فزاعم الإيمان والوفاء والصدق، وغير ذلك من معاني الخير والصلاح ظاهر، يثبت على ذلك عند المحن والمصاعب، أما إن سقط في الاختبار، فتخلى عن تلك المعاني أو بعضها، فيكون ما أظهره زيفاً بعيداً عن الحقيقة والواقع؛ أي يكون كذاباً فيما أظهر بخلاف ما يبطنه ويكنه، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:3)
وفي الهدف المراد من الابتلاء، يقول ابن كثير: ليعلم الله الذين صدقوا في دعوى الإيمان، ممن هو كاذب في قوله ودعواه، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة. (تفسير ابن كثير، 3/405)
فهذا ما تيسر التطرق إليه في قضية بهت الناس وظلمهم بالافتراء، وما تعلق من ذلك من قضايا وموضوعات، وشواهد من آيات القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والآثار المنسوبة إلى السلف الصالح، عسى أن يفيد التدبر فيها في التشجيع على تحري الصدق واتّباعه، وتجنب الكذب والحذر من الأفاكين، متأسين بالرسول الصادق الأمين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
20 ذو الحجة 1442هـ