عن أَبي بَكْرَةَ، قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ". (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (الحجرات: 9))
نعيش واقعاً للأسف يعج بالقتل، الذي يتخلله قتل الأقارب على أيدي أقاربهم وأصدقائهم وأزواجهم وما إلى ذلك، فلا يكاد صباح يخلو من خبر فاجع بخصوص القتل الذي يقع بين أبناء المجتمع الواحد، وقد نبه الإسلام إلى بشاعة القتل بغير حق، وتم التحذير من اقترافه في آيات قرآنية كريمة، وأحاديث نبوية شريفة، من بينها حديث أبي بكرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، إضافة إلى تطرق الفقه الإسلامي الموسع لأحكام القتل والقصاص والديات، وهي دون ريب ذات صلة وثيقة بموضوع القتل العمد، والذي يقع عن طريق الخطأ.
خطورة أن يلتقي المسلمان بسيفيهما
يحذر الرسول، صلى الله عليهوسلمم، من قتل الأخ أخاه، بصياغة وأسلوب يضعان المسلم أمام مراجعة إيمانية دقيقة حين يفكر في لحظة من لحظات الزمن الغابر على اقتراف جريمة قتل منكرة شرعاً، حتى إن النبي، صلى الله عليه وسلم، حذر من الإشارة بالسلاح ـ بغض النظر عن نوعه ـ إلى الأخ، ولو بقصد المزاح، فقال: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ». (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم)
يبين النووي أن في هذا الحديث تأكيدَ حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه، والتعرض له بما قد يؤذيه. وقوله، صلى الله عليه وسلم: " وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ» مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواء من يتهم فيه، ومن لا يتهم، وسواء أكان هذا هزلاً ولعباً أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال، ولعن الملائكة له يدل على أنه حرام، وقوله، صلى الله عليه وسلم: "فإن الملائكة تلعنه حتى" فيه محذوف، وتقديره حتى يدعه.
ولأنه قد يسبقه السلاح، كما صرح به في الرواية الأخرى، فعن أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ". (صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا)
وتم ضبط لفظ العين في "يَنْزِعُ" بالعين المهملة، ومعناه يرمي في يده، ويحقق ضربته ورميته. وروي في غير مسلم بالغين المعجمة، وهو بمعنى الإغراء؛ أي يحمل على تحقيق الضرب به، ويزين ذلك.صحيح مسلم بشرح النووي) 16 /170 بتصرف(
"مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا"
عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا" (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {ومن أحياها} (المائدة: 32)
يبين الكرماني المراد من حمل السلاح علينا، فيقول: أي قاتلنا من جهة الدين، أو من استباح ذلك. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 34 /315)
ومعنى "فَلَيْسَ مِنَّا": ليس متبعًا لسُنتنا، ولا سالكًا سبيلنا. (شرح صحيح البخاري- لابن بطال، 10 /16)
أي ليس على طريقتنا، أو ليس متبعاً طريقتنا؛ لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه، لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري ،35 /126)
ويبين النووي أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل، ولم يستحله فهو عاص، ولا يكفر بذلك، فإن استحله كفر، وكان سفيان بن عيينة، رحمه الله، يكره قول من يفسره بليس على هدينا، ويقول: بئس هذا القول، ويمسك عن تأويله، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر، والله أعلم. (صحيح مسلم بشرح النووي، 2 /108)
ويلخص الأحوذي معنى هذا الحديث في أن من حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق، لما في ذلك من تخويفهم، وإدخال الرعب عليهم، وكأنه كنى بالحمل عن المقاتلة، أو القتل، للملازمة الغالبة. قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد بالحمل ما يضاد الوضع، ويكون كناية عن القتال به، ويحتمل أن يراد بالحمل حمله لإرادة القتال به؛ لقرينة قوله: "علينا" ويحتمل أن يكون المراد حمله للضرب به، وعلى كل حال ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين، والتشديد فيه. (تحفة الأحوذي، 5/22)
"لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"
المنفرات الواردة في النصوص الشرعية من اقتتال المسلمين أو قتل بعضهم بعضاً كثيرة، منها حديث جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ، فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". (صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء)
قوله، صلى الله عليه وسلم: " لَا تَرْجِعُوا" أي لا تصيروا، قال ابن مالك: رجع هنا استعمل استعمال صار معنى وعملاً؛ أي لا تصيروا بعدي كفاراً، وقوله: "بعدي" قال الطبري: أي بعد فراقي في موقفي هذا، وقال غيره خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بعد الذي أمرتكم به، ويحتمل أنه، عليه الصلاة والسلام، علم أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد وفاته. وقال المظهري: يعني إذا فارقت الدنيا فاثبتوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، ولا تحاربوا المسلمين، ولا تأخذوا أموالهم بالباطل، وقيل: أي لا تكن أفعالكم شبيهة بأفعال الكفار في ضرب رقاب المسلمين. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 3 /368)
الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ
بين النووي أن هذا يكون في المقاتلة المحرمة، كالقتال عصبية، ونحو ذلك، فالقاتل والمقتول في النار، والمراد به التعريض. (صحيح مسلم بشرح النووي، 11 /174)
وقد جاء في صحيح مسلم عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَتَلَ أَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: «أَقَتَلْتَهُ؟. فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، قَالَ: نَعَمْ، قَتَلْتُهُ. قَالَ: «كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟». قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عليه وسلم: «هَلْ لَكَ مِنْ شَيء تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟. قَالَ: مَا لِي مَالٌ إِلاَّ كِسَائِي وَفَأْسِي، قَالَ: «فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟». قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ. فَرَمَى إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ. وَقَالَ: «دُونَكَ صَاحِبَكَ». فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ». فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ، وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟، قَالَ: يَا نَبِي اللَّهِ - لَعَلَّهُ قَالَ- بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ. قَالَ فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ. (صحيح مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب صحة الإقرار بالقتل)
وفي رواية أخرى عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (أُتِي رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، بِرَجُلٍ قَتَلَ رَجُلاً، فَأَقَادَ وَلِي الْمَقْتُولِ مِنْهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ وَفِي عُنُقِهِ نِسْعَةٌ يَجُرُّهَا، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: «الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ». فَأَتَى رَجُلٌ الرَّجُلَ، فَقَالَ لَهُ مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَخَلَّى عَنْهُ). (التخريج نفسه)
يبين النووي أن (الِنسْعَةٌ) بنون مكسورة، ثم سين ساكنة، هي حبل من جلود مضفورة، (وقرنه) جانب رأسه، وقوله: (يختبط) أي يجمع الخبط، وهو ورق الثمر، بأن يضرب الشجر بالعصا، فيسقط ورقه، فيجمعه علفاً، وفي هذا الحديث الإغلاظ على الجناة وربطهم، وإحضارهم إلى ولي الأمر، وقوله، صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» فالصحيح في تأويله أنه مثله في أنه لا فضل ولا منة لأحدهما على الآخر؛ لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عفى عنه، فإنه كان له الفضل والمنة، وجزيل ثواب الآخرة، وجميل الثناء في الدنيا. وقيل: فهو مثله في أنه قاتل، وإن اختلفا في التحريم والإباحة، لكنهما استويا في طاعتهما الغضب، ومتابعة الهوى، لا سيما وقد طلب النبي، صلى الله عليه وسلم، منه العفو، وإنما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، ما قال بهذا اللفظ الذي هو صادق فيه؛ لإيهام لمقصود صحيح، وهو أن الولي ربما خاف فعفا، والعفو مصلحة للولي والمقتول في ديتهما، لقوله، صلى الله عليه وسلم: "يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ». وفيه مصلحة للجاني، وهو إنقاذه من القتل، فلما كان العفو مصلحة توصل إليه بالتعريض، وقد قال الضمري وغيره من العلماء: يستحب للمفتي إذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يعرض تعريضاً يحصل به المقصود، مع أنه صادق فيه، قالوا: ومثاله أن يسأله إنسان عن القاتل هل له توبة؟ ويظهر للمفتي بقرينة أنه إن أفتى بأن له توبة ترتب عليه مفسدة، وهي أن الصائل يستهون القتل؛ لكونه يجد بعد ذلك منه مخرجاً، فيقول: المفتي في الحالة هذه صح عن ابن عباس أنه قال: لا توبة لقاتل، فهو صادق في أنه صح عن ابن عباس، وإن كان المفتي لا يعتقد ذلك، ولا يوافق ابن عباس في هذه المسألة، لكن السائل إنما يفهم منه موافقته ابن عباس، فيكون سبباً لزجره. (صحيح مسلم بشرح النووي، 11 /173-174)
فهذه وقفة أولية عند بعض أبعاد التحذير من جريمة قتل الأخ أخاه، نقفها في ظل واقع للأسف يعج بالقتل، والحوادث الفاجعة بالخصوص، وقد تمت خلال هذه الوقفة الإشارة إلى خطورة أن يلتقي المسلمان بسيفيهما، وأن مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، والتحذير من رجوعنا كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُنا رِقَابَ بَعْضٍ، مع التنبيه إلى أن الْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّارِ، على أمل متابعة عرض مزيد من هذه الأبعاد في ضوء ما جاء بالخصوص في آيات القرآن الكريم وأحاديث خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
23 جمادى الأولى 1447هـ