عَنْ عَبْدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا" (صحيح البخاري، الديات، باب قول الله تعالى: {ومن أحياها} (المائدة: 32)، ألمحت الحلقة السابقة إلى سبب اختيار هذا الموضوع للطرح والتذكير، لواقع للأسف يعج بالقتل الداخلي، وأشارت إلى خطورة أن يلتقي المسلمان بسيفيهما، حيث حذر الرسول، صلى الله عليه وسلم، من قتل الأخ أخاه، بصياغة وأسلوب يضعان المسلم أمام مراجعة إيمانية دقيقة، حين يخطر بباله الإقدام على اقتراف جريمة قتل منكرة شرعاً، وقد حذر النبي، صلى الله عليه وسلم، من الإشارة بالسلاح ـ بغض النظر عن نوعه ـ إلى الأخ، ولو بقصد المزاح، وبين النووي أن في هذا تأكيدَ حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه، والتعرض له بما قد يؤذيه. وذكر عليه الصلاة والسلام، أن "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا"، ومعنى "فَلَيْسَ مِنَّا": أي ليس على طريقتنا، أو ليس متبعاً طريقتنا؛ لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه، لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله.
ويذكر الأحوذي بعض مبررات النهي عن حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق، لما في ذلك من تخويفهم، وإدخال الرعب عليهم، وكأنه كنى بالحمل عن المقاتلة، أو القتل، للملازمة الغالبة. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد بالحمل ما يضاد الوضع، ويكون كناية عن القتال به، ويحتمل أن يراد بالحمل حمله لإرادة القتال به؛ لقرينة قوله: "علينا"، ويحتمل أن يكون المراد حمله للضرب به، وعلى كل حال ففيه دلالة على تحريم قتال المسلمين، والتشديد فيه.
ومن المنفرات الواردة في النصوص الشرعية من اقتتال المسلمين أو قتل بعضهم بعضاً، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". أي لا تصيروا بعدي كفاراً، ويحتمل أنه، عليه الصلاة والسلام، علم أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد وفاته. وقال المظهري: يعني إذا فارقت الدنيا فاثبتوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، ولا تحاربوا المسلمين، ولا تأخذوا أموالهم بالباطل، وقيل: أي لا تكن أفعالكم شبيهة بأفعال الكفار في ضرب رقاب المسلمين.
وذكر الرسول، صلى الله عليه وسلم، في سياق التنفير من أن يلتقي المسلمان بسيفيهما، أن الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، وفي هذا إغلاظ على الجناة، وقيل في تأويل هذا إن المقتول مثل القاتل، وإن اختلفا في التحريم والإباحة، لكنهما استويا في طاعتهما الغضب، ومتابعة الهوى.
ومما اشتمل عليه حديث أبي بكرة، رضي الله عنه، الذي تصدر الحلقة السابقة، إضافة إلى ما ذكر من منفرات أن يلتقي المسلمان بسيفيهما، حيث "القاتل والمقتول في النار أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أجاب عن تساؤل: هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ".
"كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ"
المرء إن قتل غيره بغير حق يكون مصيره النار - والعياذ بالله- حتى وإن وقع القتل جراء تجاوب مع ظرف عراك محفوف بالقتل، فقتل المقتول من قبل خصمه، يفضي ليكون وقاتله في النار، ولما سئل عليه الصلاة والسلام، عن سبب جزاء المقتول النار في هذه الحالة، أجاب بأن المقتول قبل أن يُقتلَ كان حريصاً على قتل صاحبه، أي أنه لم يدخر جهداً عن قتل أخيه، إلا أن نتيجة العراك انتهت بقتله هو من قبل صاحبه، وقد بين السندي أن هذا التبرير لا يدل على اقتصار الأمر على العزم على قتل صاحبه فحسب، وقال: لأن الثابت من هذا الحريص ليس مجرد العزم، بل العزم مع أفعال الجوارح من القيام، وأخذ السيف، وسله وغير ذلك. (حاشية السندي على صحيح البخاري، 1 /19)، وبين ابن بطال أن الذي كان حريصًا على قتل صاحبه أوجب له النبي، صلى الله عليه وسلم، النار بنيته ومباشرته للقتل، وأنه لا يعارض هذا قوله، صلى الله عليه وسلم: "...وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ». (صحيح مسلم ، كتاب الإيمان، باب إذا همَّ العبد بحسنة كتبت، وإذا همَّ بسيئة لم تكتب)؛ لأن الذي لم يعمل السيئة ليس كمثل الذي شرع في القتال مع الإصرار. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 1 /88)
قال القاضي: فيه حجة للقاضي أبي بكر بن الطيب، ومن قال بقوله إن العزم على الذنب، والعقد على عمله معصية، بخلاف الهم المعفو عنه، قال: وللمخالف له أن يقول هذا قد فعل أكثر من العزم؛ وهو المواجهة والقتال، وقال النووي: والأول هو الصحيح، والذي عليه الجمهور، أن من نوى المعصية وأصر عليها يكون آثماً، وإن لم يعملها، والتحقيق فيه أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه، ولهذا جاء بلفظ "الحرص" فيه. (عمدة القاري، 2 /68)
وبين العيني أن مريد المعصية إذا لم يعملها، وكان جازماً على عملها، وأصر عليه، يصير به عاصياً، ومن يعص الله ورسوله يدخله ناراً. (عمدة القاري، 35 /141)
عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ كل جريمة قتل
قتل الأخ أخاه سواء بالنسب أم الرضاع أم الدين أم الإنسانية، جريمة نكراء إذا كان بغير حق، وقد وقعت أولى وقائعها منذ بدء الخليقة، وقت تكّون أول أسرة بشرية في الكون، وذلك لما قتل أحد ابني آدم أخاه، وفي حديث عبد الله بن مسعود الصحيح المثبت نصه أعلاه، إشارة واضحة لخطورة جرائم القتل، بغض النظر عن زمان وقوعها ومكانه، وعن أشخاص القتلة والمقتولين، وفي رواية صحيحة أخرى، قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا" وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: (مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلًا) (صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة)
يبين ابن بطال معنى "كفل" في قوله، صلى الله عليه وسلم: "إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ..." يعني: إثمًا؛ لأنه أول من سنَّ القتل، فاستن به القاتلون بعده. (شرح صحيح البخاري- لابن بطال، 8 /497)
ويبين ابن حجر أن في قَوْله: "لِأَنَّهُ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْل" أَنَّ مَنْ سَنَّ شَيْئًا كُتِبَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَصْل فِي أَنَّ الْمَعُونَة عَلَى مَا لَا يَحِلّ حَرَام. (فتح الباري، 19 /303) وفيه أيضاً أن الدنيا كانت طاهرةً عن هذه المعصيةِ، وإنما سَنَّها هو، فينبغي أن يكون عليه كِفْلٌ منها. (فيض الباري شرح البخاري، 6 /6)
فجريمة القتل الأولى في مسار الحياة البشرية، اقترفها أحد ابني آدم ضد أخيه، ما جلب للقاتل وزراً غير منقطع، ومعلوم في الشرع ابتداء، جزاء الذي يسن سنة حسنة، والذي يسن غيرها، كما جاء في الحديث الصحيح، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «مَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شيء».(صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة)
ولفظاعة هذه الجريمة أخبر القرآن الكريم في ست آيات كريمة متتالية من سورة المائدة عن بعض تفاصيلها، مركزاً على جانب البراءة والنقاء والتحرز عن بسط اليد لقتل الأخ، كما ظهر جلياً في موقف الأخ الذي قُتل فيما بعد بيد أخيه، بخلاف الآخر الذي سول له الشيطان وأغواه فقتل أخاه، ثم ندم بعد أن صار الندم لا يجدي ولا ينفع، وعن حيثيات هذا الخبر الفاجع يقول جل في علاه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ* مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة: 27-32)
{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}
يبين الطاهر بن عاشور أن المقصود من التشبيه في قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} تهويل القتل، وليس المقصود أنه قد قتل الناس جميعاً، ألا ترى أنه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية الناس. على أن فيه معنى نفسانياً جليلاً، وهو أن الداعي الذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني الناشئ عن الغضب وحب الانتقام، على دواعي احترام الحق وزجر النفس، والنظر في عواقب الفعل، فالذي كان من حيلته ترجيح ذلك الداعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشريفة، فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دوماً إلى هضم الحقوق، فكلما سنحت له الفرصة قتل، ولو دعته أن يقتل الناس جميعاً لفعل. (التحرير والتنوير، 5 /90)
فهذه وقفة ثانية عند أبعاد أخرى للتحذير من جريمة الاقتتال بين المسلمين، وقتل الأخ أخاه، أشير خلالها إلى تبرير نيل القاتل والمقتول الجزاء نفسه، بأن المقتول كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، وتم التعريج بإيجاز عَلَى تحمل ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ كل جريمة قتل تقع، مع توضيح المقصود من التشبيه في قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}.
على أمل التمكن من متابعة الوقوف عند مزيد من الأبعاد الخطيرة لاقتتال المسلمين، والتقاء المسلميْن بسيفيهما، وذلك في ضوء ما جاء بالخصوص في آيات القرآن الكريم وأحاديث خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
30 جمادى الآخرة 1447هـ