عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَني؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ». (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق)
وقفت الحلقة السابقة عند قضايا تتعلق بالقتل الخطأ الذي تختلف أحكامه عن أحكام العمد، فلا قصاص في الخطأ، ولا لعنة على القاتل خطأ، ولا توعد بالنار، لكن تترتب عليه أحكام شرعية، أبرزها الدية، والكفارة، وتم التنويه بقرار مجلس الإفتاء الخاص بتقدير دية القتل الخطأ، بمائة من الإبل، انسجاماً مع الآراء الفقهية التي تعتمد الإبل كأساس شرعي في الدية، إضافة إلى أن الارتفاع المضطرد وغير المسبوق في أسعار الذهب -والذي كان سابقاً أساساً في تقدير الدية- رفع قيمة الدية الشرعية بشكل كبير، الأمر الذي يثقل على كاهل الناس، ويعطل في كثير من الأحيان إنهاء الخلافات العالقة التي سببتها حوادث القتل المختلفة بسبب العجز عن جمع قيمة الدية الباهظة، وأكد المجلس أن هذا القرار نابع من الأصول الشرعية المعتمدة في تقدير قيمة الدية الشرعية، ومتوافق مع المعمول به في كثير من الدول العربية والإسلامية المجاورة لفلسطين، مع التنويه إلى أن تغليظ الدية في القتل العمد، إنما يهدف إلى ردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على حياة الآخرين، وإزهاق النفس البشرية بغير حق.
ودعا المجلس الناس إلى الابتعاد عن القتل ومسبباته، وإلى التراحم والترابط، وإلى ترك البغضاء والخلاف، وأن يُحكِّموا الدين وأهله في حل النزاعات بينهم، خوفاً من الانزلاق في خطيئة القتل، كما دعا أولياء المقتول إلى الرحمة بالقاتل وذويه حين يقع القتل خطأ، وتعرضت الحلقة كذلك إلى القصاص من القاتل عمداً، والرد على منتقديه الذين يتغافلون أو ينسون أن قتل القاتل بموجب حكم القصاص، فيه صون لحياة الأبرياء وأرواحهم من أن تزهق دون حق، وقد بين رب العزة أن {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، فبه يحافظ على حياة الناس، ويمنع التساهل في سفك دمائهم، ويقلل من جرائم إزهاق أرواحهم، فالقتل حين يكون جزاء لمن يقتل غيره طيشاً أو ظلماً هو عين العدل والحكمة، وكما يقال: القتل أنفى للقتل، ونهى الله أولياء المقتول عن الإسراف في القتل، وفي هذا تحذير من التأسي بأخلاق الجاهلية، إذ كان أولياء القتيل يسارعون إلى الأخذ بثأرهم اعتباطاً؛ فلا يتقيدون بقتل القاتل نفسه، وإنما يقتلون غيره من ذوي قرباه، و يسرفون أحياناً في الثأر والانتقام، لا سيما إذا كانوا أقوى من جماعة القاتل.
أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة الصحيح المثبت نصه أعلاه، أجاب الرجل الذي سأل عن التصرف الشرعي تجاه من أراد أخذ ماله منه عنوة، وهذه الإجابة جديرة بالتدبر، خاصة في ضوء التحذير من الحرص على قتل الأخ، وقد سبق أن تم وعيد من يكون هذا حاله، بأنه سيشارك قاتله في المصير المتمثل بالنارـ والعياذ بالله ـ لكن هنا تشريع بقتال المعتدي، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ».
قوله، صلى الله عليه وسلم: «فَلا تُعْطِهِ مَالَكَ» وقوله: «قَاتِلْهُ»، دليلٌ على أنَّ المُحَارِبَ لا يجوزُ أن يُعْطَى شيئًا له بالٌ من المال إذا طلبَهُ على وجه الحِرَابَةِ ما أمكن، لا قليلاً ولا كثيرًا، وأنَّ المُحَارِبَ يجبُ قتالُهُ؛ ولذلك قال مالك: "قِتَالُ المحارِبِينَ جهادٌ" وقال ابن المنذر: "عَوَامُّ العلماءِ على قتالِ المحارِبِ على كُلِّ وجهٍ، ومدافعتِهِ عن المالِ والأهلِ والنَّفْس". (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2 /117)
قوله، صلى الله عليه وسلم: "فَلا تُعْطِهِ" معناه لا يلزمك أن تعطيه، وليس المراد تحريم الإعطاء، وأما قوله، صلى الله عليه وسلم، في الصائل (*)، إذا قتل هو في النار، فمعناه أنه يستحق ذلك، وقد يجازى، وقد يعفى عنه، إلا أن يكون مستحلاً لذلك بغير تأويل، فإنه يكفر، ولا يعفى عنه، والله أعلم.
واستخلص الإمام النووي أحكاماً فقهية من هذا الحديث الشريف، فقال: ففيه: جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق، سواء كان المال قليلاً أو كثيراً؛ لعموم الحديث، وهذا قول الجماهير من العلماء، وقال بعض أصحاب مالك: لا يجوز قتله إذا طلب شيئاً يسيراً كالثوب والطعام، وهذا ليس بشيء، ورجح النووي ما قاله الجماهير، وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف، وفي المدافعة عن النفس بالقتل خلاف، والمدافعة عن المال جائزة غير واجبة، والله أعلم. (شرح النووي على مسلم، 2 /165)
والذي يقتل دون ماله تأكد أنه شهيد في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ". (صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من قاتل دون ماله)
قوله: "دُونَ مَالِهِ" يبين المناوي أي عنده، و"دون" في الأصل ظرف مكان، بمعنى أسفل وتحت، استعملت هنا بمعنى لأجل التي للسببية توسعاً مجازاً؛ لأن الذي يقاتل على ماله كأنه يجعله خلفه أو تحته، ثم يقاتل عليه. "فهو شهيد"؛ أي في حكم الآخرة، لا الدنيا، أي له ثواب كثواب شهيد، مع ما بين الثوابين من التفاوت؛ وذلك لأنه محق في القتال، ومظلوم بطلبه منه. (فيض القدير، 6 /195)
التوفيق بين تشريع صد المعتدي على المال بالقوة وبين وعيد القاتل والمقتول
قال الخطابي عن وعيد القاتل والمقتول بالنار: هذا الوعيد إذا لم يكونا يتقاتلان على تأويل، وإنما يتقاتلان على عداوة، أو طلب دنيا ونحوه، وأما من قاتل أهل البغي، أو دفع الصائل، فقتل، فإنه لا يدخل في هذا الوعيد؛ لأنه مأمور بالقتال للذب عن نفسه، غير قاصد به قتل صاحبه. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 34 /316)
وبعض العلماء حصر إجازة قتل المسلم في الثلاثة المذكورين في قوله، صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ" (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قوله تعالى: {أن النفس بالنفس والعين بالعين...} المائدة: 45)، واستثنى بعضهم مع الثلاثة المذكورين الصائل، فإنه يجوز قتله للدفع، وأجيب عنه بأنه إنما لا يحل تعمد قتله إذا اندفع بدون ذلك، فلا يقال يجوز قتله بل دفعه، وقيل الصائل على قتل النفس داخل في قوله: "التارك الجماعة" واستدل به أيضاً على قتل الخوارج والبغاة لدخولهم في مفارقة الجماعة، وفيه حصر ما يوجب القتل في الأشياء الثلاثة المذكورة. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 34 /326)
وبالنسبة إلى حديث أَبي بَكْرَةَ، قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ).(صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (الحجرات: 9))
يوضح المناوي أن المراد بقوله، صلى الله عليه وسلم: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا" فيضرب كل منهما الآخر قاصداً قتله عدواناً، بغير تأويل سائغ، ولا شبهة، فالمراد أنهما التقيا يتقاتلان بآلة القتال، سيفاً أو غيره، وإنما خص السيف لأنه أعظم آلاته، وأكثرها استعمالاً "فقتل أحدهما صاحبه، فالقاتل" بالفاء جواب إذا "والمقتول في النار" إذا كان قتالهما على عداوة دنيوية، أو طلب ملك ونحوه، ومعنى "في النار" أن حقهما أن يكونا فيها، وقد يعفو الله، ولما استُغْرِبَ ذلك من جهة عدم تعدي المقتول، "يا رسول الله، هذا القاتل" يستحق النار، "فما بال المقتول؟" أي فما ذنبه حتى يكون فيها؟! قال صلى الله عليه وسلم: "إنه" أي المقتول، "كان حريصاً على قتل صاحبه" أي جازماً بذلك، مصمماً عليه حال المقاتلة، فلم يقدر على تنفيذه كما قدر صاحبه القاتل، فكان كالقاتل؛ لأنه في الباطن قاتل، فكل منهما ظالم متعد، ولا يلزم من كونهما في النار كونهما في رتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول يعذب على القتال فقط. وأفاد قوله: "حريصاً" أن العازم على المعصية يأثم، وأن كلاً منهما كان قصده القتل، كما تقرر، لا الدفع عن نفسه، فلو قصد أحدهما الدفع، فلم يندفع إلا بقتله فقتل، هدر المقتول لا القاتل. (فيض القدير، 1 /300)
فهذه وقفة خامسة عند أبعاد أخرى للتحذير من جريمة الاقتتال بين المسلمين، وقتل الأخ أخاه، أشير خلالها إلى أن قتل المعتدي على المال المستَخْدِم للقوة في سلبه يجوز دفعه بالقوة، حتى لو أدت نتيجة الدفع هذه إلى قتل المعتدي، الذي يكون مصيره النار، أو قتل المعتدى على ماله، الذي دافع عنه حتى قتل في سبيل ذلك، وهذا يكون شهيداً، أي أن مصيره يختلف عن مصير المعتدي، وتم في الحلقة التوفيق بين تشريع صد المعتدي على المال بالقوة، وبين التحذير من قتل الأخ، ووعيد القاتل والمقتول.
سائلين الله العلي القدير التوفيق للتمكن من ختم الوقوف عند مزيد من الأبعاد الخطيرة لاقتتال المسلمين، والتقاء المسلمين بسيفيهما، وذلك في ضوء ما جاء بالخصوص في آيات القرآن الكريم وأحاديث خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
*الصائل: اسم فاعل من صال، وثب. من سطا عادياً على غيره يريد نفسه أو عرضه أو ماله. (معجم لغة الفقهاء، 269) ويقال: صال عليه يَصُول صَولةً، إذا استطال. (معجم مقاييس اللغة، 3/322)
21 جمادى الآخرة 1447هـ