.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يحذر من جريمة قتل الأخ - الحلقة السادسة والأخيرة

==========================================================

عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا". (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم (النساء: 93})
تعرضت الحلقة السابقة للحوار الذي جرى بين الرسول، صلى الله عليه وسلم، والرجل الذي سأله عن كيفية التصرف المقبول شرعاً، حيال من جَاءَ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِه، فقَالَ له الرسول، صلى الله عليه وسلم: «فَلا تُعْطِهِ مَالَكَ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ». (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق) وإجابات الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن أسئلة هذا الرجل، بخصوص هذا الموضوع، جديرة بالتدبر خاصة في ضوء التحذير من الحرص على قتل الأخ، وقد سبق أن تم وعيد من يكون هذا حاله، بأنه سيلقى مصير قاتله؛ أي النارـ والعياذ بالله ـ وقوليه، صلى الله عليه وسلم: «فَلا تُعْطِهِ مَالَكَ» و: «قَاتِلْهُ»، يدلان على أنَّ المُحَارِبَ لا يجوزُ أن يُعْطَى شيئًا له بالٌ من المال إذا طلبَهُ على وجه الحِرَابَةِ ما أمكن، وأنَّ المُحَارِبَ يجبُ قتالُهُ؛ وقوله، صلى الله عليه و سلم: "فلا تعطه" معناه لا يلزمك أن تعطيه، وليس المراد تحريم الإعطاء، ومن الأحكام الفقهية التي استخلصها النووي من هذا الحديث الشريف، جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق، حسب رأي جماهير من العلماء، وفي المدافعة عن النفس بالقتل خلاف، وأن المدافعة عن المال جائزة غير واجبة، والذي يقتل دون ماله تأكد أنه شهيد في حكم الآخرة، لا الدنيا، أي له ثواب كثواب شهيد؛ لأنه محق في القتال، ومظلوم بطلبه منه.
وتم التعرض للتوفيق بين تشريع صد المعتدي على المال بالقوة، وبين وعيد القاتل والمقتول، فقيل إن الوعيد إذا لم يكونا يتقاتلان على تأويل، وإنما يتقاتلان على عداوة، أو طلب دنيا ونحوه، وأما من قاتل أهل البغي، أو دفع الصائل، فقتل، فإنه لا يدخل في هذا الوعيد؛ لأنه مأمور بالقتال للذب عن نفسه، غير قاصد به قتل صاحبه. وبعض العلماء حصر إجازة قتل المسلم في: "النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ".
وبالنسبة إلى حديث أَبي بَكْرَةَ، يوضح المناوي أن المراد بقوله، صلى الله عليه وسلم: "إذَا التَقَى المُسْلمانِ بِسَيْفَيهِما"(صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (الحجرات: 9) فيضرب كل منهما الآخر قاصداً قتله عدواناً، بغير تأويل سائغ، ولا شبهة، فالمراد أنهما التقيا يتقاتلان بآلة القتال، سيفاً أو غيره، "فالقاتِلُ وَالمَقْتولُ في النَّار" إذا كان قتالهما على عداوة دنيوية، أو طلب ملك ونحوه، ومعنى "في النّار" أن حقهما أن يكونا فيها، وقد يعفو الله، وعن ذنب المقتول، فإنه كان حريصاً على قتل صاحبه" أي جازماً بذلك، مصمماً عليه حال المقاتلة، فلم يقدر على تنفيذه كما قدر صاحبه القاتل، فكان مثله؛ لأنه في الباطن قاتل، فكل منهما ظالم متعد، ولا يلزم من كونهما في النار كونهما في رتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول يعذب على القتال فقط، والله أعلم.

المؤمن في فسحة من دينه مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا
القتل بغير حق جريمة إنسانية وأخلاقية واجتماعية ودينية بامتياز، ومن المنفرات الدينية منها، ما تضمنه حديث ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عن رَسُول اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المثبت نصه أعلاه، والمبين فيه أن المؤمن لَنْ يَزَالَ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، ومعنى قوله: "فِي فُسْحَةٍ" أي في سعة، منشرح الصدر، وإذا قتل نفساً بغير حق صار منحصراً ضيقاً، لما أوعد الله عليه ما لم يوعد على غيره، وقوله: "مِنْ دِينِهِ" كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية: "من ذنبه" ومعنى الأول أنه يضيق عليه دينه بسبب الوعيد لقاتل النفس عمداً بغير حق، ومعنى الثاني أنه يصير في ضيق بسبب ذنبه. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 34 /303) المعنى أنه في أي ذنب وقع كان له في الدين والشرع مخرج، إلا القتل فإن أمره صعب. (كشف المشكل من حديث الصحيحين، ص675)
ويبين المناوي أن في هذا إشعاراً بالوعيد على قتل المؤمن متعمداً بما يتوعد به الكافر. (فيض القدير، 4 /506) قال ابن الملك: أي إذا لم يصدر منه قتل النفس بغير حق، يسهل عليه أمور دينه، ويوفق للعمل الصالح. وقال الطيبي: أي يرجى له رحمة الله ولطفه، ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قتل ضاقت عليه، ودخل في زمرة الآيسين من رحمة الله تعالى. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 11 /6)

ورطة بالغة الصعوبة
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ، الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ". (صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: "ومن يقتل مؤمناً خطأ متعمداً فجزاؤه جهنم) (النساء: 93))
الورطات جمع ورطة، وهي كل بلاء لا يكاد صاحبه يتخلص منه، يقال تورط واستورط. (كشف المشكل من حديث الصحيحين، ص675) ويبين العيني أن الورطة هي الهلاك، يقال: وقع فلان في ورطة، أي في شيء لا ينجو منه. وقوله: "الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ" تفسير الورطات، وقوله: "بِغَيْرِ حِلِّهِ"؛ أي بغير حق من الحقوق المحللة للسفك، قال الكرماني: الوصف بالحرام يغني عن هذا القيد، ثم أجاب بقوله: "الحرام" يراد به ما شأنه أن يكون حرام السفك، أو هو للتأكيد. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 34 /303)


القتل القتل من علامات الساعة
لخطورة القتل، وبالغ أثره، وشنيع صنعه، كانت كثرة وقوعه علامة من علامات قرب قيام الساعة، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ (فَيَفِيضَ) ".(صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب ما قيل في الزلالزل والآيات)، جاء في عمدة القاري أن قوله: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ" أراد بها يوم القيامة. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 10 /482)
وفيه أن أصل الهرج الكثرة في الشيء، وقال ابن دريد: الهرج الفتنة في آخر الزمان، وقال القاضي: الفتن بعض الهرج. وأصل الهرج والتهارج الاختلاط والقتال. وقال الكرماني: إرادة القتل من لفظ الهرج إنما هو على طريق التجوز؛ إذ هو لازم معنى الهرج، اللهم إلا أن يثبت ورود الهرج بمعنى القتل لغة. والهرج القتل بلسان الحبشة، ولا يستلزم أن يكون بمعنى القتل في لغة العرب، غير أنه لما استعمل بمعنى القتل وافق اللغة الحبشية، وأما في أصل الوضع فالعرب ما استعملته إلا لمعنى الفتنة والاختلاط، واستعملوه بمعنى القتل تجوزاً، ولا يلزم من تفسيره في الحديث بالقتل أن يكون معناه القتل في أصل الوضع. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 3 /114)
ويبين ابن حجر العسقلاني أن قَوْله في تفسير المراد بالهرج: "الْقَتْل الْقَتْل" صَرِيح فِي أَنَّ تَفْسِير الْهَرْج مَرْفُوع، وَلَا يُعَارِض ذَلِكَ مَجِيئُهُ فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة مَوْقُوفًا، وَلَا كَوْنه بِلِسَانِ الْحَبَشَة. (فتح الباري، 20 /66)
خاتمة
بهذه الحلقة يُختم الحديث في هذه المرحلة عن التحذير من جريمة قتل الأخ، وقد دارت محاور الحلقات السابقة لهذه حول: سبب اختيار هذا الموضوع للطرح والتذكر، أننا نعيش واقعاً للأسف يعج بالقتل، وأشارت إلى خطورة أن يلتقي المسلمان بسيفيهما، وأن مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، والتحذير من رجوعنا كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُنا رِقَابَ بَعْضٍ، مع التنبيه إلى أن الْقَاتِل وَالْمَقْتُول فِي النَّارِ، وفي الحلقة الثانية تم تبرير نيل القاتل والمقتول جزاء النار نفسه، بأن المقتول كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، وتم التعريج بإيجاز عَلَى تحمل ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ كل جريمة قتل تقع، مع توضيح المقصود من التشبيه في قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32). وفي الثالثة بُين أن قتل العمد الظالم من السبع المهلكات، وأنه مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً، مع بيان الجزاء العقابي المترتب على القتل العمد، وفي الرابعة أشير إلى بعض أحكام القتل الخطأ، وإلى قرار مجلس الإفتاء الخاص بتقدير دية القتل الخطأ، وإلى حكم القصاص من القاتل عمداً، مع النهي عن الإسراف في القتل. وفي الخامسة بُين أن قتل المعتدي على المال المستخدم للقوة في سلبه يجوز دفعه بالقوة، حتى لو أدت نتيجة الدفع هذه إلى قتل المعتدي، الذي يكون مصيره النار، أو قتل المُعتدَى على ماله، الذي دافع عنه حتى قتل في سبيل ذلك، وهذا يكون شهيداً، أي أن مصيره يختلف عن مصير المعتدي، وتم فيها التوفيق بين تشريع صد المعتدي على المال بالقوة، وبين التحذير من قتل الأخ، ووعيد القاتل والمقتول، وفي خاتمة حلقات التحذير من جريمة الاقتتال بين المسلمين، وقتل الأخ أخاه ـ الحلقة السادسة والأخيرةـ أشير إلى أن المؤمن يبقى في فسحة من دينه مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، وأن القتل بغير حق ورطة بالغة الصعوبة، والقتل القتل من علامات قيام الساعة.
سائلين الله العلي القدير الهداية للحذر من الأبعاد الخطيرة لاقتتال المسلمين، والتقاء المسلمين بسيفيهما، وذلك في ضوء ما تعرضت إليه الحلقات الست من مضامين مستخلصة من هدي القرآن الكريم وأحاديث خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
28 جمادى الآخرة 1447هـ

تاريخ النشر 2025-12-19
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس