عن عبد اللَّهِ بن أبي بَكْرٍ، عن عَبَّادِ بن تَمِيمٍ، عن عَمِّهِ، قال: (خَرَجَ النبي، صلى الله عليه وسلم، يَسْتَسْقِي، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ)(صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء وخروج النبي، صلى الله عليه وسلم، في الاستسقاء)
الحلقة السابقة تعرضت لرد الرسول، صلى الله عليه وسلم، على سؤال أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، واستغرابها، حيال ما كانت ترى في وجهه عليه الصلاة والسلام، من كراهية لما كان يرى الغيم أو الريح، فيجيبها، صلى الله عليه وسلم: (يا عَائِشَةُ، ما يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فيه عَذَابٌ، قد عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وقد رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ، فَقَالُوا: {هذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (صحيح مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر) مشيراً إلى قوم عاد وقوم هود، حيث أهلكوا بريح صرصر، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض، وهو السحاب الذي يعترض في أفق السماء، (ممطرنا) أي ممطر إيانا. وكان عليه الصلاة والسلام، يسأل الله خير الريح، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، ويتعوذ من شرها، ومن شر ما فيها، وشر ما أرسلت به.
مشروعية الاستسقاء واستمرار الحاجة إليه
يدل حديث عبد الله بن أبي بكر المثبت نصه أعلاه، على أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يؤدي الاستسقاء، وهو كما جاء في فتح القدير، إنما يكون عند عدم الماء، وحبس المطر، ومعناه في اللغة طلب السقيا، وفي الشرع ما ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في صفته من الصلاة والدعاء. (فتح القدير، 1/91)
والصحابة الكرام، رضي الله عنهم، استسقوا، فقد روى أنس، رضي الله عنه، "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا، فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا، فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ" (صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا)
فالاستسقاء سنة من سنن الرسول، صلى الله عليه وسلم، الفعلية، التي مارسها بنفسه، بكيفيات عديدة، بالتزامن مع التضرع إلى الله تعالى، واللجوء إليه سبحانه بالتوبة الصادقة عن الخطايا والذنوب جميعها، وترك المظالم، والتخلي عنها، والتقرب إلى الله بالطاعات؛ كصيام النوافل، وأداء الصدقات التطوعية، والضراعة إلى الله تعالى بقلوب خاشعة منكسرة، فالتذلل إلى الله تعالى من أسباب إجابة الدعاء، وقد وصف الله عباده الصالحين بذلك، فقال تعالى:{وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}(الأنبياء:90)
صفة الاستسقاء
الاستسقاء عبادة، ورد أصلها عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وصفته لها صيغ عدة، وردت في الهدي النبوي، فالنبي، صلى الله عليه وسلم، خرج بالناس إلى المصلى، فاستسقى مستقبل القبلة، وحول رداءه وصلى ركعتين، فقد ورد في الحديث الشريف: (أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى، فَاسْتَسْقَى، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) (صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب تحويل الرداء في الاستسقاء) ويسن خروج الناس إلى الفلاة لأداء صلاة الاستسقاء، يخرج الشيوخ والأطفال وأهل الدين والصلاح، لأنهم الأقرب إلى استجابة دعائهم.
وصلاة الاستسقاء كصلاة العيد؛ يكبر فيها الإمام تكبيرات الزوائد، ويجهر بها في القراءة، ثم يخطب بعدها بالناس، ويتوجه إلى القبلة بالدعاء، ويبالغ برفع الأيدي، وهو يدعو، ويكثر من الاستغفار.
ومن الأدعية التي وردت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الاستسقاء " ... اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا..."، وفي لفظ:" ... اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ..."(صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مقبل القبلة)
الاستسقاء وصلاة الجمعة
من صور الاستسقاء المشروعة الدعاء يوم الجمعة على المنبر في خطبة الجمعة، فقد ورد عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، رضي الله عنه" أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ، كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ، وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، قَالَ أَنَسُ: وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ، وَلَا قَزَعَةً، وَلَا شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَانْقَطَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ"(صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع)
وبهذا الإجمال عن الاستسقاء، نختم الحديث عما تيسر من ذكر المطر والغيث، ومتعلقاتهما من الرياح والغيم وغيرهما، في ضوء ذكرهما في القرآن الكريم، وما أثر بالخصوص عن خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
21 ربيع ثاني 1443هـ