.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يربط الحج بالعقيدة والسلوك - الحلقة الأولى

==========================================================

عن أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: (بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ، نُؤَذِّنُ بِمِنًى: أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ: «لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) (صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة)
المقصود بقوله: (فِي تِلْكَ الحَجَّةِ) أي التي أمَّر فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا بكر على الحج في السنة التاسعة، قبل حجة الوداع بسنة. وقول حميد بن عبد الرحمن: (أَرْدَفَ) أرسله وراء أبي بكر، رضي الله عنه. (يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ) يقرؤها على الناس، وبراءة اسم لسورة التوبة، وسميت براءة؛ لأنها تبدأ بقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (التوبة: 1)، (تعليق مصطفى البغا، 1/82)

ربط الحج بالعقيدة الإسلامية
علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مبعوث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حسب المبين في الحديث المثبت نصه أعلاه قال: «لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ» وقد أَمر بالنداء بذلك حِين نزلت: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهمْ هَذَا} (التَّوْبَة: 28) وَالْمرَاد بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام هُنَا، الْحرم كُله، فَلَا يُمكن مُشْرك من دُخُول الْحرم بِحَال، وَكَذَلِكَ لَا يُمكن أهل الذِّمَّة من الْإِقَامَة فيه بعد ذَلِك. (عمدة القاري، 9 /266)
ومنع المشركين من قرب المسجد الحرام أمر تشريعي ذو صلة بالعقيدة، فالمسجد الحرام قبلة المسلمين، وفيه تؤدى كثير من مناسك الحج، وعلى رأسها الطواف والسعي، وبعد فتح مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة، تحقق الاستقلال لعاصمة المسلمين، وأقدس مدينة لديهم في بقاع الأرض، يقول الزحيلي: الحج كان معروفاً بين عرب الجاهلية، من عهد إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، وأقره الإسلام بعد أن أبطل ما فيه من أنواع الشرك والمنكرات، وزاد فيه بعض المناسك.
وقد فرض الله تعالى الحج على المسلمين سنة ست من الهجرة، بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران 97)، وكانت أول حجة حجها المسلمون سنة تسع بإمرة أبي بكر، رضي الله عنه، ثم حج النّبي، صلّى الله عليه وسلّم، سنة عشر، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا: ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28)
واستمر المسلمون منذ ذلك التاريخ يهرعون بقلوب ملؤها الشوق والحنين والتعظيم إلى بيت الله الحرام كل عام، من مختلف الأقطار في المشارق والمغارب، تظللهم راية الإيمان بالله تعالى، وترتفع أصواتهم بتلبية أوامر الله، وتخشع نفوسهم لتلك المواقف المهيبة، قاصدين تطهير أنفسهم من شوائب العصيان. (التفسير المنير للزحيلي، 2 /196)
وقد قابل أهل الباطل التشريع الخاص بتخصيص البيت الحرام لأهل الإيمان، دون سواهم من أهل الشرك، بالضغط على أهل الحق بأساليب ووسائل شتى ليضعفوا قوتهم وشوكتهم، فمارسوا عليهم ضغطاً اقتصادياً تمثل بقطع التعامل معهم، فلا يشترون منهم ولا يبيعونهم، وهنا طمأن الله أهل الحق لوقوفه سبحانه معهم، وهو الغني الحميد، القاهر فوق عباده، وقال سبحانه: {...وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:28)
التوجه بالحج لله
لما أمر الله بالحج طلب التوجه به إليه سبحانه، فقال عز وجل: {...وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:97)، فالحج يجب أن ينطلق من مقصد إيماني، إذ هو لله، ويؤدى على منهجه سبحانه وبما يرضيه ولنيل مثوبته.
وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) يعني أنه حق واجب للَّه في رقاب الناس، لا ينفكون عن أدائه، والخروج من عهدته. (تفسير الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، 1/39)
يبين الرازي أن قَوْلُهُ سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يفيد أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَوْنِهِ إِلَهًا أَلْزَمَ عَبِيدَهُ هَذِهِ الطَّاعَةَ، فَيَجِبُ الِانْقِيَادُ، سَوَاءٌ عَرَفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهَا أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا.
وفي قوله تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِه، وَوَعِيدٌ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ.
والْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الْحَجِّ، أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ فَقَدْ عَوَّلُوا فِيهِ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:{وَمَنْ كَفَرَ} فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْكُفْرَ لَيْسَ إِلَّا تَرْكَ مَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِهِ.
وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ: فَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا هَذَا الْوَعِيدَ عَلَى مَنْ تَرَكَ اعْتِقَادَ وُجُوبِ الْحَجِّ. (تفسير الرازي، مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير، 8 /305-306)

إتمام الحج والعمرة لله
في سياق قرآني مشابه، أمر الله بإتمام الحج والعمرة وهو غرض واضح، لكنه جل في علاه أضاف إليه بأن يكون لله، فقال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ...} (البقرة:196)
قال ابن فارس: الحج في اللغة: القصد، والاعتمار في الحج أصله: الزيارة. قال ثعلب: الحج بفتح الحاء: المصدر، وبكسرها: الاسم. قال: وربما قال الفراء: هما لغتان. وذكر ابن الأنباري في العمرة قولين: أحدهما: الزيارة. والثاني: القصد. وفي إتمامها أقوال: أحدها: أن معنى إتمامها: أن يفصل بينهما، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج، قاله عمر بن الخطاب، والحسن وعطاء. والثاني: أن يُحرِم الرجل من دويرة أهله، قاله علي بن أبي طالب، وطاوس، وابن جبير.
والثالث: أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم، قاله ابن عباس.
والرابع: أنه فعل ما أمر الله فيهما، قاله مجاهد. (زاد المسير في علم التفسير، 1/157)
يقول القشيري: (إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيه، وعلى لسان أهل الإشارة الحج هو القصد، فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام، والثاني حج الخواص، وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صحيح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى وإطلاق خواطر المنى، وما في هذا المعنى، ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع والتلبية). (لطائف الإشارات، تفسير القشيري، 1/32)
ذكر الله عند المشعر الحرام وربطه بالهدى
من دلالات ربط الحج بالعقيدة، الأمر بذكر الله خلال أداء الحج، ومن المواطن التي أمر الله بذكره فيها في الحج، عند المشعر الحرام، وذلك بعد الإفاضة من عرفات، وهو الركن الأكبر للحج، فقال عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} (البقرة:198)
يبين الواحدي أن معنى الإفاضة في اللغة: دفع الشيء حتى يتفرق، ومعنى أفضتم: دفعتم بكثرة، يعني دفع بعضكم بعضاً، لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضاً.
وعرفات: اسم لبقعة معروفة، قال عطاء: إن جبريل كان يري إبراهيم المناسك، فيقول: عرفت عرفت، فسميت عرفات.
وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالدعاء والتلبية، {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} يعني المزدلفة، سميت مشعراً؛ لأنه معلم للحج، والصلاة، والمقام، والمبيت به، والدعاء عنده، من سنن الحج.
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي: اذكروه ذكراً مثل هدايته إياكم، أي: يكون جزاء لهدايته.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} وما كنتم من قبل هداة إلا ضالين، وقال سفيان الثوري: من قبله يعني: من قبل القرآن، ذكر الله منته عليهم بالهدى والقرآن. (التفسير الوسيط للواحدي، 1/304)
وجاء في زاد المسير أن الإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ: هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك، كيف يقال: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، ثم أفيضوا من عرفات؟! ووجه الكلام على ما قال أهل التفسير: أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله. (زاد المسير في علم التفسير، 1/167)
فهذه إطلالة أولية موجزة على شواهد ربط الحج بالعقيدة، بدئت بكف المشركين عن حج بيت الله الحرام، ثم تم الوقوف عند التوجه بالحج لله، حسب الأمر الإلهي المتضمن في قوله تعالى: {...وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...} فالله أمر أن يكون الحج لذاته سبحانه، ومن دلالات ربط الحج بالعقيدة، الأمر بذكر الله خلال أداء الحج، ومن المواطن التي أمر الله بذكره فيها في الحج، عند المشعر الحرام، بعد الإفاضة من ركن الحج الأكبر عرفات، مع التذكير بأن الحج والعمرة يؤديان حسب المأثور الوارد عن سيد الأنام نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
23 ذو القعدة 1445هـ

تاريخ النشر 2024-05-31
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس