عن أنس بن مالك قال: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: (اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ).(صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن)
يتعرض الإنسان خلال حياته لأحداث سعيدة تسره، ولأخرى صعبة تنتابه آلام وأحزان بسببها، والرسول، صلى الله عليه وسلم، استعاذ بالله من أمور مؤلمة عدة، كما هو مبين في الحديث أعلاه، ما أحرانا تلمس الاستعاذة منها، وبخاصة ونحن نواجه الخطوب الجسام، وصعاب الحياة، وقد تنمر سفلة الخلق علينا.
معنى الاستعاذة
يبين القرطبي أن معنى الاستعاذة في كلام العرب الاستجارة والتحيز إلى الشيء، على معنى الامتناع به من المكروه، يقال: عذت بفلان، واستعذت به؛ أي لجأت إليه، وهو عياذي؛ أي ملجئي، وأعذت غيري به وعوذته بمعنى، ويقال: عوذ بالله منك، أي أعوذ بالله منك، والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى.(تفسير القرطبي:1/89)
ومعنى أعوذ بالله الاعتصام بالله.(عمدة القاري:19/15)
وإنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي؛ لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلا بالمستقبل؛ لأنها كالدعاء.(التسهيل لعلوم التنزيل:1/30)
وورد في القرآن الكريم الأمر المباشر بالاستعاذة بالله بفعل الأمر (فاستعذ) في أربع آيات قرآنية، تضمنت ثلاث منها: الاستعاذة بالله من الشيطان، فأمر الله بالاستعاذة من الشيطان تصدياً لنزغ الشيطان، في اثنتين منها، فقال سبحانه: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأعراف:200)، وفي سورة فصلت يقول عز وجل: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(فصلت:36)، والآيتان متطابقتان في النص والألفاظ سوى إدخال أل التعريف في فصلت على السميع العليم.
وارتبط الأمر بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن، فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(النحل:98)
أما الآية الرابعة التي تضمنت الأمر بالاستعاذة بالله؛ فقد جاء فيها هذا الأمر في سياق الحديث عن الذين يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(غافر:56)
وورد الأمر بالاستعاذة بالله بلفظ (أعوذ) في ثلاث آيات قرآنية، إحداها في سورة المؤمنون، حيث يقول تعالى:{وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}(المؤمنون:97)
واثنتين في فاتحتي سورتي الفلق والناس:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}(الفلق:1) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}(الناس:1)
وفي الحديث أعلاه استعاذة من مثالب ثمانية، نجمل معانيها فيما يأتي:
الهم والحزن
جاء في عمدة القاري عن الخطابي أن أكثر الناس لا يفرقون بين الهم والحزن، وهما على اختلافهما في الاسم يتقاربان في المعنى، إلا أن الحزن إنما يكون على أمر قد وقع، والهم إنما هو فيما يتوقع، ولم يكن بعد، وقال القزاز: الهم هو الغم والحزن، تقول: أهمني هذا الأمر وأحزنني، ويحتمل أن يكون من همه المرض إذا أذابه وأنحله، مأخوذ من هم الشحم إذا أذابه، والشيء مهموم أي مذاب.(عمدة القاري:14/177)
وقيل: الحزن خشونة في النفس لحصول غم، والهم حزن يذيب الإنسان، فهو أخص.(تحفة الأحوذي:9/320)
العجز والكسل
الكسل هو التثاقل عن الأمر، ضد الخفة والجلادة.(عمدة القاري:21/58)
وفي عون المعبود: العجز هو ضد القدرة، وأصله التأخر عن الشيء، مأخوذ من العجز، وهو مؤخر الشيء، ثم استعمل في مقابله في مقابلة القدرة، واشتهر فيها، والمراد هنا العجز عن أداء الطاعة، وعن تحمل المصيبة، و(الكسل) أي التثاقل عن الأمر المحمود مع وجود القدرة عليه.(عون المعبود:4/289)
الجبن والبخل
البخل ضد الكرم، والجبن ضد الشجاعة.(عمدة القاري:21/58)
والجبن والبخل قرينان؛ فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل.(الجواب الكافي:1/49)
ضلع الدين وغلبة الرجال
جاء في عمدة القاري أن قوله: (وضلع الدين) بفتح الضاد واللام، أي ثقل الدين، وأمر مضلع أي مثقل. وقوله: (وغلبة الرجال)، قال الكرماني: عبارة عن الهرج والمرج، ويقال: غلبة الرجال عبارة عن توحد الرجل في أمره، وتغلب الرجال عليه.(عمدة القاري:14/177)
وقيل: غلبة الرجال؛ أي قهرهم، وشدة تسلطهم عليه.(عون المعبود:4/281)
وفي فتح الباري: أصل الضلع، وهو بفتح المعجمة واللام، الاعوجاج، يقال: ضلع بفتح اللام، يضلع، أي مال، والمراد به هنا ثقل الدين وشدته، وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاء، ولا سيما مع المطالبة، وقال بعض السلف: ما دخل هم الدين قلباً إلا أذهب من العقل مالا يعود إليه.
وقوله: (وغلبة الرجال) أي شدة تسلطهم، كاستيلاء الرعاع هرجاً ومرجاً.(فتح الباري:11/174)
حكمة الاستعاذة من هذه المثالب
قال الكرماني: هذا الدعاء من جوامع الكلم؛ لأن أنواع الرذائل ثلاثة: نفسانية وبدنية وخارجية، والدعاء مشتمل على جميع ذلك.(فتح الباري:11/174)
وقال ابن القيم: كل اثنين منها قرينتان؛ فالهم والحزن قرينتان؛ إذ المكروه الوارد على القلب إن كان من مستقبل يتوقعه أحدث الهم، أو من ماض أحدث الحزن، والعجز والكسل قرينتان، فإن تخلف العبد عن أسباب الخير إن كان لعدم قدرته فالعجز، أو لعدم إرادته فالكسل، والجبن والبخل قرينتان، فإن عدم النفع إن كان ببدنه فالجبن، أو بماله فالبخل، وضلع الدين وقهر الرجال قرينتان، فإن استعلا الغير عليه؛ إن كان بحق فضلع الدين، أو بباطل؛ فقهر الرجال. (فيض القدير:2/151)
فهذه وقفة أولى عند معاني بعض المثالب المستعاذ منها، التي يرجى التوفيق للوقوف عند معاني المزيد منها، حسب آيات الذكر الحكيم ومتون الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
6 جمادى الآخرة 1444هـ