.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يستعيذ بالله من الهم والحزن وأمور أخرى - الحلقة الثانية

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ، (كان رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَتَعَوَّذُ من جَهْدِ الْبَلَاء،ِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ)(صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء)
تعرضت الحلقة السابقة لبيان معنى الاستعاذة، ويتلخص بالاستجارة، ومعنى أعوذ بالله: الاعتصام بالله، وإنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي؛ لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلا بالمستقبل؛ لأنها كالدعاء، وورد في القرآن الكريم الأمر المباشر بالاستعاذة بالله بفعل الأمر (فاستعذ) في أربع آيات قرآنية، وورد الأمر بالاستعاذة بالله بلفظ (أعوذ) في ثلاث آيات قرآنية، والرسول، صلى الله عليه وسلم، استعاذ من خصال الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال، في حديث كان من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي هريرة المثبت نصه أعلاه استعاذة من أربع خصال أخرى، نجمل معانيها فيما يأتي:
جهد البلاء
الجهد بفتح الجيم، وبضمها المشقة.(فتح الباري:11/148)
وقال ابن بطال وغيره: جهد البلاء كل ما أصاب المرء من شدة مشقة، ومالا طاقة له بحمله، ولا يقدر على دفعه. (فتح الباري:11/149)
ومن أمثلة جهد البلاء:
- كثرة العيال مع قلة الشيء؛ فإن ذلك شدة بلاء.
- قلة الصبر؛ أي على الفقر والمصائب والآلام والأسقام، فإن لم يصبر على البلاء لا يثاب، فيفوته حظه من الدنيا والآخرة، وأي بلاء أعظم من ذلك.
- الحاجة إلى ما في أيدي الناس فتمنعوا؛ أي فتسألونهم فيمنعونكم، فيجتمع على الإنسان شدة الحاجة وذل المسألة، وكلاحة الرد. ومما ينسب إلى الشافعي، رضي الله عنه: ومن العجيب من القضاء وصنعه بؤس اللبيب، وطيب عيش الأحمق، وأحق خلق الله بالهم امرؤ ذو همة، يبلى برزق ضيق، ولربما مرت بقلبي فكرة فأود منها أنني لم أخلق.
- جهنم تحيط بالدنيا؛ أي من جميع الجهات، كإحاطة السوار بالمعصم، والجنة من ورائها، أي والجنة تحيط بجهنم، فلذلك صار الصراط على جهنم طريقاً إلى الجنة، فهو كالقنطرة عليها، فما يعبر إلا عليه إليها، وإن ذلك لسهل على من سهله الله عليه.(فيض القدير:3/352)
درك الشقاء
الدرك هو اللحوق والوصول إلى الشيء، يقال: أدركته إدراكاً، وقيل: الدرك بفتح الراء اسم، وبالسكون المصدر. والشقاء بفتح الشين بمعنى الشقاوة نقيض السعادة، ويجيء بمعنى التعب، كقوله تعالى: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(طه:2)، وقيل: هو واحد درجات جهنم، ومعناه من موضع أهل الشقاوة، وهي جهنم، أو من موضع تحصل لنا فيه شقاوة، وقيل: المراد بالشقاء الهلاك، ويطلق على السبب المؤدي إليه.(مرقاة المفاتيح:4/1703)
سوء القضاء
جاء في مرقاة المفاتيح شرح للاستعاذة من سوء القضاء، أي ما ينشأ عنه سوء في الدين والدنيا والبدن والمال والخاتمة، فمعناه كما قال بعضهم وهو يسوء الإنسان أو يوقعه في المكروه. قال الطيبي: على أن لفظ السوء منصرف إلى المقضي عليه. قال زين العرب: هو مثل قوله (من شر ما قضيت) وقال ابن بطال: المراد بالقضاء المقضيّ؛ لأن حكم الله كله حسن لا سوء فيه. وقال غيره: القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأوّل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل.(مرقاة المفاتيح:4/1703)
شماتة الأعداء
الشماتة هي الحزن يفرح العدو، والفرح يحزنه.(عمدة القاري: 23/161)
وشماتة الأعداء أي فرحهم ببلية تنزل بعدوهم، وسرورهم بما حل بهم من البلايا والرزايا.(فيض القدير:3/257)
ويرى ابن حجر أن شماتة الأعداء تقع لكل من وقع له كل من الخصال الثلاثة.(فتح الباري:11/149) أي إنها تحصل بمن وقع في جهد البلاء، ومن أدركه الشقاء، ووقع في سوء القضاء.
وفي القرآن الكريم ذكر للفظ الشماتة على لسان هارون، عليه السلام، حين قال لأخيه موسى، عليهما السلام: {...فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(الأعراف:150)
{فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء} يعني أصحاب العجل، {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الذين عبدوا العجل؛ أي لا تجعلني شريكاً لهم في عقوبتك لهم على فعلهم، فعند هذا قال موسى، عليه السلام: {رَبّ اغْفِرْ لِي} أي فيما أقدمت عليه من هذا الغضب والحدة، {وَلأخِي} في تركه التشديد العظيم على عبدة العجل، {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ}(الأعراف:151) (التفسير الكبير:15/11)
استنباطات من هذا الحديث الشريف
قال الكرماني: إنما دعا صلى الله عليه وسلم، بذلك تعليماً لأمته، وهذه كلمة جامعة؛ لأن المكروه إما أن يلاحظ من جهة المبدأ، وهو سوء القضاء، أو من جهة المعاد، وهو درك الشقاء، أو من جهة المعاش، وذلك إما من جهة غيره، وهو شماتة الأعداء، أو من جهة نفسه، وهو جهد البلاء، نعوذ بالله من ذلك.(شرح السيوطي لسنن النسائي:8/271)
يقول ابن حجر: وفي الحديث دلالة لاستحباب الاستعاذة من الأشياء المذكورة، وفيه أن الكلام المسجوع لا يكره إذا صدر عن غير قصد إليه، ولا تكلف. وفيه مشروعية الاستعاذة، ولا يعارض ذلك كون ما سبق في القدر لا يرد لاحتمال أن يكون مما قضى فقد يقضى على المرء مثلاً بالبلاء، ويقضي أنه إن دعا كشف، فالقضاء محتمل للدافع والمدفوع، وفائدة الاستعاذة والدعاء إظهار العبد فاقته لربه، وتضرعه إليه.(فتح الباري:11/149)
فهذه وقفة أخرى عند معاني بعض الخصال المستعاذ منها، التي يرجى التوفيق للوقوف عند معاني المزيد منها، حسب ما تضمنته آيات الذكر الحكيم ومتون الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
13 جمادى الآخرى 1444هـ

تاريخ النشر 2023-01-06
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس