.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يستعيذ بالله من الهم والحزن وأمور أخرى - الحلقة الخامسة

==========================================================

عن شَدَّاد بن أَوْسٍ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللهمّ أنت رَبِّي، لَا إِلَهَ إلا أنت، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ من شَرِّ ما صَنَعْتُ، أَبُوءُ لك بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لك بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي، فإنّه لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنت. قال: وَمَنْ قَالَهَا من النَّهَارِ مُوقِنًا بها، فَمَاتَ من يَوْمِهِ قبل أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ من أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا من اللَّيْلِ، وهو مُوقِنٌ بها، فَمَاتَ قبل أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ من أَهْلِ الْجَنَّةِ).(صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار)
تعرضت الحلقة السابقة للاستعاذة بالله من عذاب القبر، ومن فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، ومن فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، ومن الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ.
سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ
حديث شداد بن أوس المثبت نصه أعلاه يتضمن الدعاء بسيد الاستغفار، ومعناه: أي أفضل أنواع الأذكار التي تطلب بها المغفرة، هذا الذكر الجامع لمعاني التوبة كلها، والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة الستر للذنوب، والعفو عنها.(فيض القدير:4/119)
قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعاني التوبة كلها، استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور.
وقوله: (وأنا على عهدك) قال الخطابي: يريد أنا على ما عهدتك عليه، وواعدتك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، ما استطعت من ذلك. ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عهدت إليّ من أمرك، ومتمسك به، ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر، واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى، وقال ابن بطال: قوله: (وأنا على عهدك ووعدك) يريد العهد الذي أخذه الله على عباده، حيث أخرجهم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ فأقروا له بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانية. وبالوعد ما قال على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)(صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة).(فتح الباري: 11/99-100)
الاستعاذة من شر الصنيع والأفعال
معنى (أبوء لك بنعمتك عليّ) أي أعترف بها، من قولهم باء بحقه، أي أقربه، وأصله البواء، ومعناه اللزوم، ومنه بوأه الله منزلاً إذا أسكنه، فكأنه ألزمه به (وأعترف بذنوبي) قال الطيبي: اعترف أولاً بأنه تعالى أنعم عليه، ولم يقيده ليشمل أنواع النعم جميعها، ثم اعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شكرها، ثم بالغ فعده ذنباً، مبالغة في هضم النفس، تعليماً للأمة.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون قوله: (أبوء لك بذنبي) اعتراف بوقوع الذنب مطلقاً، ليصح الاستغفار منه، لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنباً. (لا يغفر الذنوب) أي ما عدا الشرك.(تحفة الأحوذي:9/238)
الجنة لمن دعا بيقين
قوله: (من قالها موقناً) أي مخلصاً من قلبه، مصدقاً بثوابها، كان من أهل الجنة، قيل: المؤمن وإن لم يقلها فهو من أهل الجنة، وأجيب بأنه يدخلها ابتداء من غير دخول النار؛ لأن الغالب أن الموقن بحقيقتها، المؤمن بمضمونها، لا يعصى الله تعالى، أو لأن الله يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار.(عمدة القاري: 22/279)
وعن أهمية اليقين لاستحقاق الجنة، يخبر أبو هريرة، أنه دخل على رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فقال: (نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا، فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا، فَفَزِعْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ، فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ، قَالَ: اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لِاسْتِي، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً، وَرَكِبَنِي عُمَرُ، فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي، قَالَ: ارْجِعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُمَرُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ، وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ، مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَخَلِّهِمْ)(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان، وهو غير شاك فيه، دخل الجنة، وحرم على النار)
بديع المعاني وحسن الألفاظ في حديث سيد الاستغفار
قال ابن أبي حمزة: جمع في الحديث من بديع المعاني، وحسن الألفاظ، ما يحق له أن يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستغفار من شر ما جنى على نفسه، وإضافة النعم إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو، وكل ذلك إشارة إلى الجمع بين الحقيقة والشريعة؛ لأن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان عون من الله، قال: ويظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار، إذا جمع صحة النية والتوجه والأدب.(فيض القدير:4/120)
أعاذنا الله من شر الذنوب والمعاصي، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للاستغفار بسيد الاستغفار بيقين، لختم الوقوف عند ما تيسر من مواطن الاستعاذة بالله حسب ما تضمنته آيات القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة المروية عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
5 رجب 1444هـ

تاريخ النشر 2023-01-27
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس