عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ، قال: كان من دُعَاءِ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ)(صحيح مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء)
تعرضت الحلقة السابقة للدعاء بسيد الاستغفار ومعناه، والاستعاذة بالله فيه من شَرِّ ما يصنع المستغفر، وأن الجنة جزاء المستغفرين بيقين، مع بيان أهمية اليقين لاستحقاق الجنة، وتمت الإشارة إلى بديع المعاني وحسن الألفاظ في حديث سيد الاستغفار، إذ إنه جمع صحة النية والتوجه والأدب.
الاستعاذة من زَوَالِ النِعْمَة، وَتَحَوُّلِ العَافِيَةَ، وَفُجَاءَةِ النِقْمَةَ، وَجَمِيعِ السَخَطِ
المراد بالنعمة هنا الإسلام والإيمان، ومنحة الإحسان والعرفان. و(تحول عافيتك) أي انتقالها من السمع والبصر وسائر الأعضاء. والفرق بين الزوال والتحول، أن الزوال يقال في شيء كان ثابتاً في شيء، ثم فارقه، والتحول تغير الشيء، وانفصاله عن غيره، فمعنى زوال النعمة ذهابها من غير بدل، وتحول العافية إبدال الصحة بالمرض، والغنى بالفقر، وفجاءة النقمة أي بغتتها، والنقمة المكافأة بالعقوبة، والانتقام بالغضب والعذاب، وخصها بالذكر لأنها أشد. (وجميع سخطك) أي ما يؤدي إليه، أو جميع آثار غضبك.(عون المعبود:4/283)
الاستعاذة بالله من شَرّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ
عن عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قالت: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: (اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ).(صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من فتة الفقر)
يقول ابن حجر: إن التقييد في الغنى والفقر بالشر لا بد منه، لأن كلاً منهما فيه خير باعتبار، فالتقييد في الاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير، سواء قل أم كثر. قال الغزالي: فتنة الغنى الحرص على جمع المال وحبه حتى يكسبه من غير حله، وبمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه، وفتنة الفقر يراد به الفقر المدقع الذي لا يصحبه خير، ولا ورع، حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة، ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب، ولا في أي حالة تورط، وقيل: المراد به فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها، وليس فيه ما يدل على تفضيل الفقر على الغنى.(فتح الباري: 11/177)
الاستعاذة بالله من وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ في الْمَالِ وَالْأَهْلِ
هذه الاستعاذة تضمنها دعاء السفر، فعن ابن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، كان إذا اسْتَوَى على بَعِيرِهِ خَارِجًا إلى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قال: (سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا، وما كنا له مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهم إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ الْعَمَلِ ما تَرْضَى، اللهم هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهم أنت الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ في الْأَهْلِ، اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ في الْمَالِ وَالْأَهْلِ. وإذا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وزاد فِيهِنَّ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ).(صحيح مسلم، كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره)
المراد بوعثاء السفر بفتح الواو وإسكان العين، شدته ومشقته، وأصله من الوعث، وهو الرمل، والمشي فيه يشتد على صاحبه ويشق، والكآبة بفتح الكاف هي تغير النفس بالانكسار من شدة الهم والحزن، يقال: كئب كآبة واكئب، فهو مكتئب وكئيب، المعنى أنه يرجع من سفره بأمر يحزنه، إما إصابة في سفره، وإما قدم عليه مثل أن يعود غير مقضي الحاجة، أو أصابت ماله آفة، أو يقدم على أهله فيجدهم مرضى، أو قد فقد بعضهم. والمنقلب بفتح اللام المرجع. (تحفة الأحوذي:9/281)
الاستعاذة بالله من عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لها
عن زَيْدِ بن أَرْقَمَ، قال: لَا أَقُولُ لَكُمْ إلا كما كان رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول: كان يقول: (اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللهم آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أنت خَيْرُ من زَكَّاهَا، أنت وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لها)(صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل)
يقول الإمام النووي: هذا الحديث وغيره من الأدعية المسجوعة، دليل لما قاله العلماء أن السجع المذموم في الدعاء هو المتكلف؛ فإنه يذهب الخشوع والخضوع والإخلاص، ويلهى عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب، فأما ما حصل بلا تكلف، ولا إعمال فكر لكمال الفصاحة، ونحو ذلك، أو كان محفوظاً فلا بأس به، بل هو حسن. ومعنى (نفس لا تشبع) استعاذة من الحرص والطمع والشره، وتعلق النفس بالآمال البعيدة، ومعنى (زكها) طهرها، ولفظة (خير) ليست للتفضيل، بل معناه لا مزكي لها إلا أنت، كما قال: (أنت وليها).( صحيح مسلم بشرح النووي:17/41-42)
جاء في تحفة الأحوذي، أن معنى (من علم لا ينفع) أي علم لا أعمل به، ولا أعلم الناس، ولا يهذب الأخلاق والأقوال والأفعال، أو علم لا يحتاج إليه، أو لم يرد في تعلمه إذن شرعي. قال الطيبي: اعلم أن في كل من القرائن الأربع ما يشعر بأن وجوده مبني على غايته، وأن الغرض منه تلك الغاية، وذلك أن تحصيل العلوم إنما هو للانتفاع بها، فإذا لم ينتفع به يكون وبالاً، وأن القلب إنما خلق لأن يتخشع لبارئه، وينشرح لذلك الصدر، ويقذف النور فيه، فإذا لم يكن كذلك كان قاسياً، فيجب أن يستعاذ منه، قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ( الزمر: 22)، وأن النفس يعتد بها إذا تجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود، وهي إذا كانت منهومة لا تشبع، حريصة على الدنيا، كانت أعدى عدو المرء، فأولى الشيء الذي يستعاذ منه هي؛ أي النفس، وعدم استجابة الدعاء دليل على أن الداعي لم ينتفع بعلمه وعمله، ولم يخشع قلبه، ولم تشبع نفسه.(تحفة الأحوذي:9/319)
أعاذنا الله من عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لها، ومن شر فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، ومن وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ في الْمَالِ وَالْأَهْلِ، وهناك استعاذات أخرى وردت في القرآن الكريم، كما في سورتي الفلق والناس، وفي الحديث الشريف كالاستعاذة من شَرِّ هذه اللَّيْلَةِ، وَشَرِّ ما بَعْدَهَا، ومن الْكَسَلِ، وَسُوءِ الْكِبَرِ، ونكتفي في هذه المرحلة بما تم الوقوف عنده من مواطن الاستعاذة بالله حسب ما تضمنته آيات القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة المروية عن النبي محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
12 رجب 1444هـ