عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ).(صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة)
لفتت الحلقة السابقة الانتباه إلى كيفية السلوك عند مواجهة نوع من الفتن عظيم، التي فسرها بعض العلماء بالِاخْتِلَاف الَّذِي يكون بَين أهل الْإِسْلَام، بِسَبَب افتراقهم على الإِمَام، وَلَا يكون المحق فِيهَا مَعْلُوماً. وحيال هذه الفتن يكون الْقَاعِد فِيهَا خير من الْقَائِم، وفي هذا إِشَارَة إِلَى أَن شَرها يكون بِحَسب التَّعَلُّق بهَا، وَمعنى (الْقَاعِد خير من الْقَائِم) الَّذِي لَا يستشرفها. وهذا يَعْنِي: أَن بَعضهم فِي ذَلِك أَشد من بعض، فأعلاهم فِي ذَلِك السَّاعِي فِيهَا، حَيْثُ يكون سَبباً لإثارتها، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، بين درجات شر هذا النوع من الفتن، من خلال بيان أكثرها شراً، وأقلها، ليأخذ المسلم حذره من الانخراط في تأجيج الفتن بين المسلمين، وإشعال لهيبها.
ووقفت الحلقة كذلك عند أثر سلبي عام للفتنة مما يوجب الحذر منها، فهي التي لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ خَاصَّةً، مما يعني لزوم الحذر منها؛ لأنها إِنْ نَزَلَتْ بِالناس لَمْ تَقْتَصِرْ سلبياتها وآثارها المدمرة عَلَى الظَّالِمِينَ خَاصَّةً، بَلْ تَتَعَدَّى إِلَيْهمْ جَمِيعًا، وَتَصِلُ إِلَى الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ. فهذان جانبان عامان وخطيران من فتن المحيا التي نرجو أن يقينا الله شرها، ونحن نبتلى بصعاب جمة، انتهكت فيها حرمة مساجدنا، وسفكت دماء رجالنا ونسائنا وأطفالنا، ودمرت أحياؤنا ومساكننا باستهتار فج، تحت أنظار العالم بأسره وسمعه، فالله نسأل أن يفرج كربنا، ويصرف عنا ما نحن فيه من شدة وابتلاء، ونسأله سبحانه أن يعيذنا من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعيننا لنَجَدَ مِن الفتن مَلْجَأً، نلوذ بِهِ منها.
موضع التعوذ من فتنة المحيا والممات في الصلاة
سبق الاستدلال على التعوذ من فتنة المحيا والممات، من فعله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، الصحيح المثبت نصه أعلاه، يحدد رَسُول اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، موضعاً في الصلاة للاستعاذة من أمور، منها: فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وهو بعد التشهد، حسب هذه الرواية، وَفِي رِوَايَةٍ أنها تكون بعد التشهد الأخير، فعن مُحَمَّد بْن أَبِي عَائِشَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)( صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة) وفي روايات أخرى أنها تكون في الصلاة دون تحديد، فعن عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَسْتَعِيذُ فِي صَلاَتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ)(صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام)
ويرى جمهور العلماء أن حكم هذا الدعاء الاستحباب، بخلاف بعضهم كابن حزم، الذي يرى أن حكمه الوجوب، مستدلاً على ذلك بحديث طاووس الذي رواه مسلم، الذي يفيد أنه أمر ابنه بإعادة الصلاة لما علم منه أنه لم يدع به، فعن مُسْلِم بْن الْحَجَّاجِ، قَالَ: (بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لِابْنِهِ: أَدَعَوْتَ بِهَا فِي صَلَاتِكَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: أَعِدْ صَلَاتَكَ، لِأَنَّ طَاوُسًا رَوَاهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، أَوْ كَمَا قَالَ).( صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة)
قَالَ النَّوَوِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِ طَاووُسٍ أَنَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ، فَأَمَرَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِفَوَاتِهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَعَلَّ طَاوُوسًا أَرَادَ تَأْدِيبَ ابْنِهِ، وَتَأْكِيدَ هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَهُ، لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ وُجُوبِ ذَلِكَ عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، ثُمَّ إنَّهُ تَرُدُّهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي عِنْدِ مُسْلِمٍ الَّتِي فِيهَا تَقْيِيدُ التَّشَهُّدِ بِالْأَخِيرِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ.(طرح التثريب في شرح التقريب:3/107-108)
وفي شرح رياض الصالحين أن هذه أربعة أمور أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن نستعيذ بالله منها إذا فرغنا من التشهد، يعني قبل التسليم.(شرح رياض الصالحين:5/504)
أهمية التعوذ من فتنة المحيا والممات
لخطورة فتنة المحيا والممات، تم الحث على التعوذ منها ومن أمور أخرى في الصلاة وخارجها، وبلغ الأمر بالحث عليه درجة أخبر عنها ترجمان القرآن ابْن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حيث روى أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: (قُولُوا: اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ).( صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة)
جاء في مرقاة المفاتيح أن معنى (كَانَ يُعَلِّمُهُمْ) أَيْ: أَصْحَابَهُ، أَوْ أَهْلَ بَيْتِهِ، فكان يعلمهم هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وذكر الاستعاذة مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، عقب الاستعاذة من الأمور الثلاثة المذكورة في هذا الحديث، هو من قبيل تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَكَرَّرَ أَعُوذُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ إِظْهَارًا لِعِظَمِ مَوْقِعِهَا، وَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ بِإِعَاذَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ. (مرقاة المفاتيح شرح مشاة المصابيح:2 /752)
فالحث على التعوذ من فتنة المحيا والممات في الصلاة وخارجها يدل على أهميته؛ لخطورة هذه الفتنة، التي يحتاج المرء ملاذاً من الله منها.
الابتلاء بالفتن والتصدي لها بالأعمال الصالحة
الفتن التي يواجهها الناس لها أشكال وغايات كثيرة، ومن غاياتها التمحيص، حسب ما جاء في فاتحة سورة العنكبوت، وفيها يقول عز وجل: { الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }(العنكبوت: 1- 3). يبين الزمخشري المراد من الفتنة هنا، فيقول: هي الامتحان بشدائد التكليف: من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات والملاذ، وبالفقر والقحط، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال. وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم. والمعنى: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم، وأظهروا القول بالإيمان، أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمتحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم، وثبات أقدامهم، وصحة عقائدهم، ونصوع نياتهم، ليتميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب. (تفسير الكشاف:3/438)
وقد وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى التصدي للفتن بالمبادرة بالأعمال، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا) (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن)
يبين النووي أن في هذا الْحَدِيثِ حَثّاً عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ تَعَذُّرِهَا، وَالِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْفِتَنِ الشَّاغِلَةِ الْمُتَكَاثِرَةِ، الْمُتَرَاكِمَةِ كَتَرَاكُمِ ظَلَامِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَوَصَفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَوْعًا مِنْ شَدَائِدِ تِلْكَ الْفِتَنِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُمْسِي مُؤْمِنًا، ثُمَّ يُصْبِحُ كَافِرًا، أَوْ عَكْسُهُ، وَهَذَا لِعِظَمِ الْفِتَن، يَنْقَلِبُ الْإِنْسَانُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ هَذَا الِانْقِلَابَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.( صحيح مسلم بشرح النووي: 2/133).
إذن فلا غرابة من وجود الفتن وتعرض الصالحين وغيرهم لها، لكن العبرة بإحسان التصدي لها، والنجاح في امتحاناتها.
الاستعاذة من الفتن المفضية للقهقرى عن الدين
الاستعاذة من الفتن وردت بصور وصيغ وأساليب عدة، تم التركيز فيها على الاستعاذة من فتنة المحيا والممات لعمومها، ومن أصعب أنواع الفتن تلك التي تفضي إلى الرجوع على الأعقاب عن الدين، ومن الأدلة الشرعية التي أشارت إلى هذا النوع من الفتن حديث ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي، فَيُقَالُ: لاَ تَدْرِي، مَشَوْا عَلَى القَهْقَرَى) قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ) (صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ما جاء في قوله تعالى: {واتقوا فتنة...} (الأنفال: 25))
فقد ألصق الصحابي أبو مليكة استعاذته من أن يفتن باستعاذته من الرجوع على الأعقاب، ويذكر ابن حجر أن في هذه الاستعاذة إشَارَة إِلَى أَنَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْعَقِبِ كِنَايَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الَّذِي تَكُونُ الْفِتْنَةُ سَبَبَهُ، فَاسْتَعَاذَ مِنْهُمَا جَمِيعًا. (فتح الباري:11/476).
فنسأل الله النجاة من الفشل في امتحانات الفتن، وبخاصة تلك المفضية إلى النكوص على الأعقاب، سواء بسبب شدة تبلغ القلوب فيها الحناجر، أم بسبب رخاء تكثر فيه الخيرات، أم بأي حال من الأحوال، ونرجوه سبحانه أن يربط على قلوبنا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن ينصرنا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وفاء لوعده الكريم، حيث يقول جل شأنه: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر:51-52)
فهذه خاتمة لما تيسر الوقوف المجمل عنده من أنواع فتن المحيا والممات،حسب ما ورد في القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أفضل الصلاة وأتم التسليم.
16 جمادى الآخرة 1445هـ