.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يستعيذ بالله من فتنة المحيا والممات - الحلقة الثالثة

==========================================================

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ). (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)
وقفت الحلقة السابقة عند بعض دلالات الآية العاشرة من سورة البروج التي أنزلها الله تعالى على نبيه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، في ثنايا الحديث عن قصة أصحاب الأخدود، وفيها وصف الله جريمة أصحاب الأخدود التي اقترفوها ضد المؤمنين بالفتنة، ومعنى قوله عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَيسند صاحب أضواء البيان لأبي حيان ترجيحه أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى هذا عَامًّا فِي كُلِّ مَنْ آذَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرُدُّوهُمْ عَنْهُ بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ وَالتَّعْذِيبِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى؛ لِيَشْمَلَ الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات في كل زمان ومكان، بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ.
وتعرضت الحلقة لتوعد الله الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات بعذاب بئيس، فبالإضافة إلى توعدهم بعذاب جهنم وعذاب الحريق، على ما فيهما من القسوة، فقد نبه سبحانه إلى أن بطشه شديد، وأنه يبدئ ويعيد.
واستنبط من خاتمة سورة البروج تأكيدات على أمور عقائدية، منها أن الله فعال لما يريد، فلا يقع فعل في الأرض ولا في السماء إلا بعلمه وإذنه سبحانه، والتوعد ببطش الله الشديد وباليوم الموعود، بالإضافة إلى ما يشمله من وعيد للظالمين المتغطرسين اليوم وغداً والأمسين القريب والبعيد، كما كان لفرعون وثمود وعاد وغيرهم، فإنه يفيد الذين يتعرضون للفتن في كل زمان ومكان، من ناحية الطمأنة لانتقام الله لهم من ظالميهم، فكيد فرعون وأمثاله ضعيف أمام كيد رب العالمين، الذي أخذه شديد، وانتقامه صعب، وهو لن يكون بعيداً عن المجرمين، وإنما هو منهم قريب، وما ربك بظلام للعبيد.
والفتن التي تنتاب المستضعفين تنضوي تحت فلك فتن المحيا والممات، أعاذنا الله من شرها، وألهمنا الصبر والثبات إذا ما أصابتنا وابتلينا بها.


فِتَنٌ، القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ
حديث أبي هريرة المثبت نصه أعلاه، يلفت الانتباه إلى كيفية السلوك عند مواجهة نوع من الفتن عظيم، وفي عمدة القاري أن قَوْله: (سَتَكُون فتن) يعني جَمِيع الْفِتَن، وَقيل: هِيَ الِاخْتِلَاف الَّذِي يكون بَين أهل الْإِسْلَام بِسَبَب افتراقهم على الإِمَام، وَلَا يكون المحق فِيهَا مَعْلُوماً. وقَوْله: (الْقَاعِد فِيهَا) أَي: فِي الْفِتَن (خير من الْقَائِم) إِشَارَة إِلَى أَن شَرها يكون بِحَسب التَّعَلُّق بهَا، وَمعنى (الْقَاعِد خير من الْقَائِم) الَّذِي لَا يستشرفها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: الظَّاهِر أَنه إِنَّمَا أَرَادَ أَن يكون فِيهَا قَاعِداً. وَحكى ابْن التِّين عَنهُ أَن الظَّاهِر أَن المُرَاد من يكون مباشراً لَهَا فِي الْأَحْوَال كلهَا، يَعْنِي: أَن بَعضهم فِي ذَلِك أَشد من بعض، فأعلاهم فِي ذَلِك السَّاعِي فِيهَا، بِحَيْثُ يكون سَبباً لإثارتها، ثمَّ من يكون قَائِماً بأسبابها، وَهُوَ الْمَاشِي، ثمَّ من يكون مباشراً لَهَا، وَهُوَ الْقَائِم، ثمَّ من يكون مَعَ النظارة وَلَا يُقَاتل، وَهُوَ الْقَاعِد، ثمَّ من يكون محسناً لَهَا وَلَا يُبَاشر وَلَا ينظر، وَهُوَ المضطجع الْيَقظَان، ثمَّ من لَا يَقع مِنْهُ شَيْء من ذَلِك، وَلكنه رَاض وَهُوَ النَّائِم، وَالْمرَاد بالأفضلية فِي هَذِه الْخَيْرِيَّة من يكون أقل شرّاً مِمَّن فَوْقه، على التَّفْصِيل الْمَذْكُور. (عمدة القاري:24/190)


فتن مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ
جاء في عمدة القاري أيضاً أن قَوْله: (من تشرف) على وزن تفعل، من الْمَاضِي، وهو من: الإشراف، وَهُوَ الانتصاب للشَّيْء، والتطلع إِلَيْهِ، والتعرض لَهُ، وقَوْله: (تستشرفه) أَي: تغلبه وتصرعه، وَقيل: هُوَ من الإشراف على الْهَلَاك، أَي: تستهلكه، وَقيل: من طلع لَهَا بشخصه طالعته بِشَرَفِهَا. قَوْله: (ملْجأ) أَي: موضعاً يلتجئ إِلَيْهِ، (فليعذ بِهِ) وَهُوَ أَمر للْغَائِب من عاذ بِهِ. وقَوْله: (أَو معَاذًا) شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ بِمَعْنى ملْجأ أَيْضاً.
وَفِيه: الْحَث على تجنب الْفِتَن والهرب مِنْهَا، وَأَن شَرها يكون بِحَسب التَّعَلُّق بهَا. (عمدة القاري: 16/138)
وفي عون المعبود، عن الْهَرَوِيّ، قال: (أَشْرَفْتُهُ) أَيْ عَلَوْتُهُ، وَاسْتَشْرَفْتُ عَلَى الشَّيْءِ اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ وَالتَّغْرِيرِ وَالْإِشْفَاءِ عَلَى الْهَلَاكِ، أَيْ مَنْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ فِيهَا أَهْلَكَتْهُ، يُقَالُ: (أَشْرَفَ الْمَرِيضُ) إِذَا أَشْفَى عَلَى الْمَوْت. (عون المعبود:11/234)
فهذا نوع آخر من فتن المحيا التي يستعاذ بالله منها ومن شرها، والرسول، صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث الشريف يبين درجات شر هذا النوع من الفتن، من خلال بيان أكثرها شراً، وأقلها، ليأخذ المسلم حذره من الانخراط في تأجيج الفتن بين المسلمين، وإشعال لهيبها، فالقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، أعاذنا الله من شرها، ومن التَشَرَّف لَهَا حتى لا تَسْتَشْرِفنا، ونسأل الله أن يعيننا لنَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً، أَوْ مَعَاذًا، نلوذ بِهِ منها.

الحذر من شر الفتن
هناك فتن آثارها تمتد لتصيب الذين ظلموا وسواهم، وقد أمر الله بالكف عنها، والعمل على الوقاية من شرها، فقال سبحانه محذراً منها: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال:25) يقول الرازي أن الْمَعْنَى: وَاحْذَرُوا فِتْنَةً إِنْ نَزَلَتْ بِكُمْ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى الظَّالِمِينَ خَاصَّةً، بَلْ تَتَعَدَّى إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، وَتَصِلُ إِلَى الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ. (تفسير الرازي:15/473)
ويبين الزمخشري أن معنى فتنة هنا ذنباً، قيل: هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل: {فِتْنَةً} عذاباً. وقوله: {لا تُصِيبَنَّ} لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر. أو نهياً بعد أمر. أو صفة لفتنة، فإذا كان جواباً، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة، ولكنها تعمكم، وهذا كما يحكى أن علماء بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيراً -أي تقصيراً فيه- فعمهم الله بالعذاب، وإذا كانت نهياً بعد أمر، فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة...(الكشاف:2/211)
وروي عن ابْن عَبَّاس قوله فِي معنى هذه الْآيَة: لَا تقروا الْمُنكر بَيْنكُم، ومروا بِالْمَعْرُوفِ؛ كي لَا يعمكم الله بعقاب، فَيُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم.
وَقيل: أَرَادَ بالفتنة: تَفْرِيق الْكَلِمَة وَاخْتِلَاف الآراء، وَاتَّقوا فتْنَة تَفْرِيق الْكَلِمَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة، فَيكون الْعَذَاب مضمراً فِيهِ. {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب}.(تفسير السمعاني:2/258)
فالسكوت عن المنكر يجر على الساكتين وإن لم يقترفوه الويل، ويؤيد هذا حديث أم المؤمنين زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: (أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ - وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا- قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ)(صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج)، الخبث: بفتح المعجمة والموحدة ثم مثلثة فسروه بالزنى وبأولاد الزنى، وبالفسوق والفجور، وهو أولى لأنه قابله بالصلاح (فتح الباري: 13/109)
فهذان جانبان عامان وخطيران من فتن المحيا التي نرجو أن يقينا الله شرها، وخاصة ونحن نبتلى بصعاب جمة، انتهكت فيها حرمة مساجدنا، وسفكت دماء رجالنا ونسائنا وأطفالنا، ودمرت أحياؤنا ومساكننا باستهتار فج، تحت أنظار العالم بأسره وسمعه، فالله نسأل أن يفرج كربنا، ويصرف عنا ما نحن فيه من شدة وابتلاء، وهو القائل سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(الأنبياء:35)
ونرجوه سبحانه أن يوفق لاحقاً لختم الوقوف عند مواضع ذكر فتنة المحيا والممات المستعاذ منها، حسب ما ورد في القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
9 جمادى الآخرة 1445هـ

تاريخ النشر 2023-12-22
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس