عن أَنَس بْن مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ). (صحيح البخاري)
الهموم كثيرة، والأحزان تتواصل، وتضيق الدنيا أحياناً بالمرء بما رحبت، ويظن بعض الناس بالله الظنون، وما أجمل وأرقى وأنفع هذا الدعاء الذي يعلمنا إياه الرسول الأسوة، صلى الله عليه وسلم، لندعو به في الشدائد والكروب، ليرفع الله عنا الهم والحزن، وأمور سلبية أخرى، ويكشف عنا ما نحن فيه من غم وضر.
معاني الأمور الثمانية المستعاذ منها
يروي أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الحديث المثبت نصه أعلاه، أنه كان يستعيذ من ثمانية أمور، بُينت مجمل معانيها في شروح الحديث، ومن ذلك أن:
الهَمِّ والحَزَنِ: مترادفان، وقيل الهم مما يتوقع، والحزن مما وقع. والعَجْزِ: ذهاب القوة. وَالكَسَلِ: التثاقل عن الأمر مع القدرة عليه. والْجُبْنِ: ضد الشجاعة. والْبُخْلِ: ضد الكرم. وضَلَعِ الدَّيْنِ: ثقله. (الفجر الساطع شرح صحيح البخاري، للزهروني، 7 /179)
وقيل: الحزن خشونة في النفس لحصول غم، والهم حزن يذيب الإنسان، فهو أخص من الحزن، وقيل هو بالآتي، والحزن بالماضي، وقيل: هما بمعنى، والعجز هو عدم القدرة على الخير، وقيل هو ترك ما يجب فعله، والتسويف به. أما الكسل فهو عدم انبعاث النفس للخير، وقلة الرغبة مع إمكانه.
والبخل هو ضد السخاوة، وبالنسبة إلى ضلع الدين، فأصل الضلع الاعوجاج، والمراد به هنا ثقل الدين وشدته، وذلك حيث لا يجد من عليه الدين وفاء، ولا سيما مع المطالبة. وقال بعض السلف: ما دخل هم الدين قلباً إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه.
و(غلبة الرجال) وفي بعض النسخ (قهر الرجال) أي شدة تسلطهم، كاستيلاء الرعاع هرجاً ومرجاً.
قال الكرماني: هذا الدعاء من جوامع الكلم؛ لأن أنواع الرذائل ثلاثة: نفسانية وبدنية وخارجية، فالأولى بحسب القوى التي للإنسان، وهي ثلاثة: العقلية والغضبية والشهوانية، فالهم والحزن يتعلق بالعقلية، والجبن بالغضبية، والبخل بالشهوانية، والعجز والكسل بالبدنية، والثاني يكون عند سلامة الأعضاء، وتمام الآلات والقوى، والأول عند نقصان عضو ونحوه، والضلع والغلبة بالخارجية، فالأول مائي، والثاني جاهي، والدعاء مشتمل على ذلك جميعه. (تحفة الأحوذي، 9 /321، بتصرف)
الدنيا دار ابتلاء ومحن
يتعرض الناس في حياتهم الدنيا إلى صنوف شتى من الابتلاءات والمحن والشدائد، وفي خطاب قرآني جلي أكد رب البرية سبحانه سنة الابتلاء التي أراد وقوعها بعباده، ذاكراً صنوفاً بارزة منها، فقال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوف وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155)
يبين الشيخ وهبة الزحيلي معنى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي لنمتحننّكم، من الابتلاء: وهو الاختبار والامتحان ليعلم ما يكون من حال المختبر، والمراد: نصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم، بالخوف من العدو: ضد الأمن، وَالْجُوعِ: القحط، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ: بالهلاك، وَالْأَنْفُسِ بالقتل والموت والأمراض، وَالثَّمَراتِ بالجوائح، أي لنختبرنكم، فننظر أتصبرون أم لا، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على البلاء بالجنة. والمصيبة: كل ما يؤذي الإنسان في نفس أو مال أو أهل. ونقص الثمرات: قلتها. وأمر الله بالصبر على الابتلاء، ويعنى هذا توطين النفس على احتمال المكاره، أي استعينوا على الآخرة بالصبر على الطاعة والبلاء. (التفسير الميسر، 2 /37 بتصرف)
وجاء في الكشف والبيان عن ابن عبّاس قوله: {الخوف} يعني خوف العدو، والجوع يعني المجاعة والقحط.
و{نقص من الأموال} يعني الخسران والنّقصان في المال، وهلاك المواشي {والأنفس} يعني الموت والقتل، وقيل: المرض، وقيل: الشيب. و{الثمرات} يعني الحوائج، وأن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج ، وقال الشافعي: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوف} يعني خوف الله عزّ وجلّ، و{الجوع} صيام شهر رمضان، و{نقص من الأموال} أداء الزّكاة والصدّقات، و{الأنفس} الأمراض، و{الثمرات} موت الأولاد؛ لأن ولد الرجل ثمرة قلبه. {وبشّر الصّابرين} على البلايا والرّزايا. (الكشف والبيان، 2 /22-23)
وأكد سبحانه سنية الابتلاء بقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران:186)
ذكر في هذه الآيَة الكريمة أنّ المؤمنين سيبتلون في أمْوالهم وأنفسهم، وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشْركين، وأنَّهم إِن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتّقوا اللّه، فإِن صبرهم وتقاهم من عزم الأمور، أي: من الأمور الَّتي ينبغي العزم والتصميم عليها لوجوبها. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 1 /218)
وبين سبحانه بعض غايات الابتلاء بقوله عز وجل:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31)، فالابتلاء الرباني له غاية وأهداف عليا، منها الكشف عن المجاهدين والصابرين حقيقة، وامتحانهم.
وفي المحصلة فقد وعد الله الصابرين على المحن والابتلاءات بالبشرى، بما تحمله من معان وإيحاءات مباركة للصابرين، وعن قضاء الله وقدره المتعلقين بوقوع المصائب، يقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد:22)
وعن حال المؤمن من المصائب التي تقع به، يروي صُهَيْب فيقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ). (صحيح مسلم)
ذكر الحزن في القرآن الكريم
ذُكر لفظ الحزن اثنتان وأربعون مرة في القرآن الكريم، ودار هذا الذكر حول ثلاثة معاني رئيسة، فقد جاء في سياق نفي الحزن عن المؤمنين وعباد الله الصالحين، والآيات الست من سورة البقرة، التي ذكر فيها الحزن كانت في هذا النطاق، منها قوله عز وجل: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:112) يبين ابن عاشور أن الخوف المنفي هو الخوف الناشئ عن الذلة، والحزن المنفي هو الناشئ عن المسكنة. (التحرير والتنوير، 1 /523)
ويضيف في موضع آخر بأن المنفي خوف مخصوص، وهو خوف الآخرة. والتّعبير فِي نفي الخوف بالخبر الاسميّ، وهو لا خوف عليهم، لإِفادة نفي جنس الخوف نفيًا قارًّا، لدلالة الجملة الاسميَّة على الدوام والثّبات، والتّعبير في نفيِ خوف بالخبر الفعلي وهو {يحْزَنُونَ} لإِفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة؛ أَي بخلاف غير المؤْمنين. ولما كان الخوف والحزن متلازميْن، كانت خصوصيّة كل منهما سارية في الآخر. (التحرير والتنوير، 1/541)
وجاء ذكر الحزن في سياق النهي عن الحزن، في عدد من الآيات القرآنية، منها قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران:139)، يبين ابن عاشور أن الله ينهى المسلمين عن أسباب الفشل. والوهن: الضعف، وأصله ضعف الذات: كالجسم في قوله تعالى: {قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} (مريم: 4) وهو هنا مجاز في خور العزيمة، وضعف الإرادة، وانقلاب الرجاء يأساً، والشجاعة جبناً، واليقين شكاً، ولذلك نهوا عنه. وأما الحزن فهو شدة الأسف البالغة حد الكآبة والانكسار. والوهن والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء، فيترتب عليهما الاستسلام. فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما، ولذلك قدم على هذا النهي قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} (آل عمران: 137) الخ... وعقب بقوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.(التحرير والتنوير، 3 /227-228)
أما المعنى الرئيس الثالث للحزن فكان الألم القلبي والمعاناة النفسية، وورد ذكره بهذا المعنى في عدد آخر من الآيات القرآنية، منها قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المجادلة:10)
يبين الرازي أن الشيطان يحملهم على أن يقدموا على تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين، وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين، قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا وهزموا، ويقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له.
ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْـئاً إِلا بِإِذْنِ اللَّه} وفيه وجهان:
أحدهما: ليس يضر التناجي بالمؤمنين شيئاً، والثاني: الشيطان ليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله، وقوله: {إِلا بِإِذْنِ اللَّه} قيل: بعلمه، وقيل: بخلقه، وتقديره للأمراض وأحوال القلب من الحزن والفرح، وقيل: بأن يبين كيفية مناجاة الكفار حتى يزول الغم.
ثم قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فإن من توكل عليه لا يخيب أمله، ولا يبطل سعيه. (تفسير الرازي، ص4433)
ومما يلاحظ أن الذكر القرآني للحزن غالباً يأتي مقترناً بذكر الخوف، وأنه ورد في مناسبات مختلفة، وعلى ألسنة مختلفة أيضاً.
فالهم والحزن عني الإسلام بتوجيهاته ومواعظه وشرعه على معالجة أمرهما، والإرشاد لسبل التغلب عليهما، على الرغم من أنهما ينتابان الناس لظروف وابتلاءات تحل بهم، حتى إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، حزن لما مات ابنه إبراهيم، وقال: (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) (صحيح البخاري) لكن الفرق شاسع بين الجزع من الحزن، وبين صده بالطمأنينة إلى جنب الله، جل في علاه.
آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بمضمون حديث أَنَس بْن مَالِكٍ، حول الاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، كما رويت عن الرسول الأسوة محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
24 ذو الحجة 1446هـ