.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يستعيذ بالله من الهم والحزن وأمور أخرى - الحلقة التاسعة

==========================================================

أكد الله في القرآن الكريم الموحى به إلى رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، نفي الخوف والحزن عمن آمن وأصلح، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:277)
ضمن متابعة الحديث عن قضايا ومسائل متشعبة عن موضوع الاستعاذة بالله من الهم والحزن وأمور أخرى، وقفت الحلقة السابقة عند عنوان باب من أبواب صحيح البخاري، عنوانه: فَضْلِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران 169- 171) وعند حديث من أحاديث هذا الباب تعلق بأَصْحَاب بِئْرِ مَعُونَةَ، الذين مكث النبي، صلى الله عليه وسلم، ثَلاَثِينَ غَدَاةً، يَدعو عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (انظر الحديث في صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل قول الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا...} (آل عمران: 169-170)، الذين قتلوا مبعوثيه.
وعن المهلب أن كل مقتول غدرًا شهيد؛ لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرًا، وشملهم وصف الشهداء، الذين يستبشرون بما تبين لهم من حال الذين تركوهم من خلفهم في الدنيا من رفقائهم، بأنهم لا خوف عليهم في المستقبل، ولا هم يحزنون على ما تركوه في الدنيا، بل سيكونون آمنين مطمئنين بعد فراقهم للدنيا، وعندما يبعثون يوم القيامة.
ونفى عنهم الخوف والحزن؛ لأن الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي، فبين - سبحانه - أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة، ولا حزن لهم فيما فاتهم من متاع الدنيا، إضافة إلى استبشارهم لأنفسهم بسبب ما أنعم اللّه به عليهم من نعم جزيلة.
مَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
شريحة من الخلق يتصفون بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعدهم الله بأجر من عنده، ومن ضمن ذلك رفع الخوف والحزن عنهم، كما هو مبين في الآية الكريمة السابعة والسبعين بعد المائتين من سورة البقرة، المثبت نصها أعلاه، فالذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا الأعمال الطيبة، وأدَّوا الصلاة كما أمر الله ورسوله، وأخرجوا زكاة أموالهم، لهم ثواب عظيم خاص بهم عند ربهم ورازقهم، ولا يلحقهم خوف في آخرتهم، ولا حزن على ما فاتهم من حظوظ دنياهم. (التفسير الميسر، 1 /290)
ويبين السعدي أن هذه الآية أدخلت بين آيات الربا، لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية تكميل الإيمان وحقوقه، خصوصاً إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة إحسان إلى الخلق، ينافي تعاطي الربا، الذي هو ظلم لهم، وإساءة عليهم. (تفسير السعدي، 1 /959)
وفي آيتين أخريين من سورة البقرة والمائدة، وعد الله المؤمنين بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً والذين هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ بالمثوبة الربانية، وحمايتهم من الخَوْف والحزن، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:62)
يبين ابن عاشور وجه الاقتصار في الآية على ذكر هذه الأديان الثلاثة مع الإسلام، دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة، أن هذا مقام دعوتهم للدخول في الإسلام؛ لأنهم أرجى لقبول الإسلام من المجوس والدهريين؛ لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم، ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك، فلذلك اقتصر عليهم تقريباً لهم من الدخول في الإسلام.
وقوله تعالى: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قراءة الجمهور بالرفع؛ لأن المنفي خوف مخصوص، وهو خوف الآخرة. والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي، وهو {لا خوف عليهم} لإفادة نفي جنس الخوف نفياً قاطعاً، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات، والتعبير في نفي الحزن بالخبر الفعلي، وهو { يَحْزَنُونَ } لإفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة، أي بخلاف غير المؤمنين. ولما كان الخوف والحزن متلازمين، كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر.(التحرير والتنوير، 1 /520+523)
وفي سورة المائدة يقول جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة:69)
يبين د. محمد سيد طنطاوي أن الآية الكريمة مسوقة للترغيب في الإيمان والعمل الصالح، ببيان أن كل من آمن باللّه واليوم الآخر، واتبع ما جاء به النبي، صلى اللّه عليه وسلم، واستمر على هذا الإيمان، وهذا الإتباع إلى أن فارق هذه الحياة، فإن اللّه تعالى يرضى عنه، ويثيبه ثواباً حسناً، ويتجاوز عما فرط منه من ذنوب؛ لأن الإيمان الصادق يجب ما قبله، من عقائد زائفة، وأعمال باطلة، وأقوال فاسدة. (التفسير الوسيط للقرآن الكريم، 4 /230)
فمن آمن بالله واليوم الآخر، فله النجاة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها. وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة. (تفسير السعدي، 1 /239)
وأكد سبحانه نفي الخوف والحزن عمن آمن وأصلح في سورة الأنعام، فقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأنعام:48)
يبين الزحيلي أن من صدّق الرّسل وآمن بقلبه بما جاؤوا به، وأصلح عمله باتّباعه إياهم، فلا خوف عليهم في المستقبل من عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، ولا هم يحزنون يوم لقاء اللّه، على ما فاتهم في الماضي، وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدّنيا؛ لأن اللّه يحفظهم من كلّ فزع، كما قال تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (الأنبياء:103)، ولا يحزنون في الدّنيا مثل حزن المشركين في شدّته وطول مدّته، وإنما يصبرون على ما أصابهم، ويلتمسون الأجر عند اللّه، ويتأملون العوض منه، لأن اللّه تعالى أرشدهم للشكر عند النعمة والصبر عند النقمة، وتفويض الأمر للخالق، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (الحديد:22- 23). (التفسير المنير: 7 /205)
نفي الخوف والحزن عمن اتقى وأصلح
وعد الله من اتقى وأصلح، بحمايتهم من الخوف والحزن، فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأعراف:35)
يبين ابن عاشور أن جملة {فَمَنِ اتَّقَى} إلخ، شرطية، وجوابها {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي فمن اتبع رسلي فاتقاني وأصلح نفسه وعمله، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولما كان إتيان الرسل فائدته لإصلاح الناس، لا لنفع الرسل، عدل عن جعل الجواب اتّباع الرسل إلى جعله التقوى والصلاح، إيماء إلى حكمة إرسال الرسل، وتحريضاً على اتباعهم بأن فائدته للأمم لا للرسل، كما قال شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود:88)، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدنيا والآخرة، ولا هم يحزنون من شيء من ذلك، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقاً بمقدار قوة التقوى والصلاح، ومثله قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:62-64).
وقد نفى الخوف نفي الجنس بلا النافية له، وجيء باسمها مرفوعاً؛ لأن الرفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا، لأن الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحد، ولو فتح مثله لصح.
و{على} في قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} للاستعلاء المجازي، وهو المقارنة والملازمة، أي لا خوف ينالهم.
وقوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} جملة عطفت على جملة: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، وعدل عن عطف المفرد، بأن يقال ولا حزن، إلى الجملة: ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم، فيدل على أن الحزن واقع بغيرهم. وهم الذين كفروا، فإن بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر. (التحرير والتنوير، 8 /84)
فقد أنذر اللّه تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلاً يقصون عليهم آياته ويخبرونهم بأحكامه وفرائضه، وحيال ذلك أنتم في أحد حالين، أحدهما يبشّر، والآخر يحذّر، فمن اتّقى اللّه وأصلح ما بينه وبين ربه، فترك المحرّمات، وفعل الطّاعات، فلا خوف عليه من عذاب الآخرة، ولا يطرأ عليه حزن حين الجزاء على ما فاته، أو فلا خوف عليه من أحوال المستقبل، ولا حزن عليه من أحوال الماضي، بخلاف الذين كذّبت قلوبهم بآيات اللّه، واستكبروا عن قبولها والعمل بها، فأولئك أصحاب النّار، ماكثون فيها مكثاً دائماً مخلّداً. (التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، 8 /199 بتصرف)
فهذه وقفة أخرى يسر الله إليها عند مسألة من مسائل الحزن، تعلقت بذكر شرائح من الخلق وعدهم الله بالحماية من الخوف والحزن، وهم الذين آمنوا وأصلحوا، والذين اتقوا وأصلحوا، آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بالاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وأمور أخرى، كما رويت عن الرسول الأسوة محمد، صلى الله وسلم عليه ، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
21 صفر 1447هـ

تاريخ النشر 2025-08-15
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس