.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يستعيذ بالله من الهم والحزن وأمور أخرى - الحلقة الثامنة

==========================================================

أكد رب العزة نفي الخوف والحزن عن الذين قتلوا في سبيله سبحانه، فقال عز وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:169-171)
ضمن متابعة الحديث عن قضايا ومسائل متشعبة عن موضوع الاستعاذة بالله من الهم والحزن وأمور أخرى، وقفت الحلقة السابقة عند نهي أم موسى عن الخوف والحزن، على إثر أمرها بإلقائه في اليم، وقد اقترن هذا النهي بطمأنتها برده إليها، وجعله من المرسلين، ومعنى {فإذا خِفْتِ عليه} من القتل {فألقيه في اليمِّ} أي في البحر، وهو نيل مصر، {ولا تخافي} عليه من الغرق والضياع، {ولا تحزني} لفراقه، {إنا رادوه إليك} بوجه لطيف؛ لتُربيه، {وجاعلوه من المرسلين}. والفرق بين الخوف والحزن؛ أن الخوف: غم يلحق الإنسان لِتَوَقُّعِ مكروه، والحزن: غم يلحق الإنسان لواقع أو ماض، وهو الآن فراقه والإخطار به، فنُهيت عنهما، وبُشرت برده وجعله من المرسلين. وقد جمعت الآية السابعة من سورة القصص، التي تضمنت هذا النهي الموجه لأم موسى بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين.
وتعرضت الحلقة كذلك لنفي الخوف والحزن عن المنفقين في سبيل الله، الذين لا يُتبعون إنفاقهم مناً وأذى.
وقد أَعلم الله المُنْفِقِينَ أَنَّ المَنَّ وَالْأَذَى من مبطلات الصَّدَقَةَ، لِمَا فِيهِ مِنْ جَرْحِ شُعُورِ المِسْكِينِ، فالمطلوب إنفاق من غير من وأذى، وقد فضل الله قول المعروف على الصدقة التي تُتبع بأذى، والمن: أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه؛ بحيث يقول: أنا فعلت معه كذا، وكذا إظهاراً لميزته عليه. والأذى: أن يتطاول عليه بذلك. ويقول: لولا أنا لم يكن منك شيء مثلاً. فمن فعل هذا فقد ذهبت صدقته هباءً منثوراً، ومن سلم من ذلك، والذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله فـ{لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. فإذا خاف الناس يوم القيامة، لما بين أيديهم من هول، وإذا حزنوا لما فاتهم من عمل صالح يقدمونه لهذا اليوم، فالمنفقون في سبيل الله دون مَنّ ولا أذى قد آمنهم اللّه من الخوف لما يرون من بشريات الجزاء الحسن لأعمالهم الصالحة، وقد أخلى قلوبهم من الحزن على أن لم يكونوا قدموا لهذا اليوم العظيم.
وفي الآية 274 من سورة البقرة كذلك تأكيد رباني لنفي الخوف والحزن عن المنفقين في سبيله سبحانه، فالذين يُنفقون أموالهم مرضاة لله ليلاً ونهارًا مسرِّين ومعلنين، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.
باب خاص في صحيح البخاري
ضمن أبواب صحيح البخاري، بَاب عنوانه: فَضْلِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}
يعقب العيني على هذا التبويب، فيقول: أي هذا باب في بيان فضل من ورد فيه قول الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا... (آل عمران 169 - 171 ) الآية، ويضيف: ولا بد من هذا التقدير لأن ظاهره غير مراد.(عمدة القاري، 21 /231)
ومن ضمن أحاديث هذا الباب حديث أَنَس بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (دَعَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ، ثَلَاثِينَ غَدَاةً؛ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَت اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ أَنَسٌ: أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ). (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل قول الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله (آل عمران: 171))
معونة بفتح الميم، وضم العين، هي موضع من جهة نجد بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم، وكانت غزوتها سنة أربع. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 21 /234)
وقصة أصحاب بئر معونة كما يذكرها ابن هشام، أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة، قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة فعرض عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إني أخشى عليهم أهل نجد". قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك من رجال البعث، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة المعنق ليموت في أربعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، فغدر عامر بالبعث، فلما نزلوها بعثوا حرام Hبن ملحان بكتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم، من عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم- يرحمهم الله- إلا كعب بن زيد، أخا بني دينار ابن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق الموت، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. (السيرة النبوية، 4 /137-138)
ويذكر ابن بطال عن المهلب قوله: إن في هذه الآية التي في الترجمة دليل على أن كل مقتول غدرًا شهيد؛ لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرًا بهم. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 5 /29)

الاستبشار بحجب الخوف والحزن
يذكر عبد الرحمن القماش أن الحياة بذكر الحق بعد ما تتلف النفوس في رضاء الحق، أتَمُّ من البقاء بنعمة الخلق مع الحجبة عن الحق. ويقال إن الذي وارثُه الحي الذي لم يزل فليس بميت - وإن قُتِل.
ومَنْ علم أن أحباءه ينتظرونه وهم في الرَّفَه والنعمة لا يهنأ بعيش دون التأهب والإلمام بهم والنزول عليهم. (جامع لطائف التفسير، 18 /209-210)
ويبين د. محمد سيد طنطاوي أن المعنى هنا: ويستبشرون بما تبين لهم من حال الذين تركوهم من خلفهم في الدنيا من رفقائهم، وهو أنهم لا خوف عليهم في المستقبل، ولا هم يحزنون على ما تركوه في الدنيا، بل هم سيكونون آمنين مطمئنين بعد فراقهم للدنيا، وعندما يبعثون يوم القيامة.
ونفى عنهم الخوف والحزن؛ لأن الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي. فبين - سبحانه - أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة، ولا حزن لهم فيما فاتهم من متاع الدنيا.
وقوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} استئناف مبين لما هم عليه من سرور يتعلق بذواتهم. بعد أن بين - سبحانه - سرورهم بحال الذين لم يلحقوا بهم، والمعنى أن هؤلاء الشهداء يستبشرون بحال إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم.
كما أنهم يستبشرون أيضاً لأنفسهم بسبب ما أنعم اللّه به عليهم من نعم جزيلة، وبسبب ما تفضل به عليهم من زيادة الكرامة، وسمو المنزلة.
وهذا يدل على أن هؤلاء الشهداء لا يهتمون بشأن أنفسهم فقط. وإنما يهتمون أيضاً بأحوال إخوانهم الذين تركوهم في الدنيا، وفي ذلك ما فيه من صفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم، حيث أحبوا الخير لغيرهم كما أحبوه لأنفسهم، بل إن تقديم استبشارهم بحال إخوانهم على استبشارهم بما يتعلق بأنفسهم ليشعر بأن اهتمامهم بحال إخوانهم أشد من اهتمامهم بحال أنفسهم.
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ} يعود على الذين لم يلحقوا بهم، فتكون جملة {يَسْتَبْشِرُونَ} حالاً من الذين لم يلحقوا بهم.
وعليه يكون المعنى: أن هؤلاء الذين لم يلحقوا بهم لا خوف عليهم ولا حزن، فهم مستبشرون بنعمة من اللّه وفضل ... (التفسير الوسيط للقرآن الكريم، 2 /338-339)
فهذه وقفة جديدة يسر الله إليها عند مسألة من مسائل الحزن، تعلقت بالتأكيد الرباني على نفي الخوف والحزن عن الذين قتلوا في سبيل الله، وقد أفرد الإمام البخاري باباً خاصاً في صحيحه لفضل الآيات الكريمة من سورة آل عمران المتضمنة تأكيد نفي الخوف والحزن عن هذه الشريحة المؤمنة، التي يستبشر عناصرها بحال إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، إضافة إلى استبشارهم لأنفسهم بسبب ما أنعم اللّه به عليهم من نعم جزيلة.
آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بالاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، كما رويت عن الرسول الأسوة محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
14 صفر 1447هـ

تاريخ النشر 2025-08-08
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس