يطمئنه الله والمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيقول جل شأنه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس:62)
وقفت الحلقة السابقة عند أمر الله، عز وجل، نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، بالصبر، ونهيه عن الحزن على أعدائه والكافرين بدينه، وعن الضيق مما يمكرون، حيث خاطبه سبحانه في الآية 127 من سورة النحل بقوله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} فصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَثِلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ؛ وَهَذِهِ من الْمَعِيَّة الإلهية بالْمُؤْمِنِينَ، التي تكون بِالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ، وجملة {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} معترضة بين المتعاطفات، أي وما يحصل صبرك إلا بتوفيق الله إياك، ونهاه سبحانه عن الحْزَن على متنكبي دربه إن لم يؤمنوا، ثم أعقبه بنهيه أن يضيق صدره من مكرهم، والضيق مصدر ضاق، والمراد به هنا ضيق النفس، وهو مستعار للجزع والكدر، كما استعير ضده وهو السعة والاتساع للاحتمال والصبر، وحقيقة الضيق عدم كفاية المكان أو الوعاء لما يراد حلوله فيه، وهو هنا مجاز في الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء، فيحس المرء في مجاري نفسه بمثل ضيق عرض لها. ويحصل انضغاط في أعصاب صدره، ويتواصل النهي القرآني عن الحزن بسبب كفر الكافرين وأقوالهم المسيئة المؤذية، فقد نصت عليه آيات قرآنية عديدة، والله عز وجل يسلي الرسول، صلى الله عليه وسلم، بتهوين كفرهم عليه، تسلية له وتعريضاً بقلة العبء بهم؛ لأن مرجعهم إلى الله، فيريهم الجزاء المناسب لكفرهم، فهو تعريض لهم بالوعيد.
وأسند النهي إلى كفرهم عن أن يكون محزناً للرسول، صلى الله عليه وسلم، مجازاً عقلياً في نهي الرسول، عليه الصلاة والسلام، عن مداومة الفكر بالحزن لأجل كفرهم؛ لأنه إذا قلع ذلك من نفسه انتفى إحزان كفرهم إياه، وفي قوله تعالى: {إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ} تهديد للمشركين، ووعيد لهم بالحساب الشديد، والعذاب الأليم، فاللّه سبحانه يعلم ما يسرون وما يعلنون، من كفر، وهو سبحانه محاسبهم ومجازيهم عليه.
فهذه عينة من النواهي الربانية الصادرة للنبي، صلى الله عليه وسلم، تترافق مع النهي عن الحزن وردت في ظروف وأحوال معينة، وفي المحصلة فإنها مستندات وثيقة لحالة الاستعاذة الدائمة من الحزن العام والخاص.
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
بالتزامن مع الاستعاذة من الحزن، والنهي عن المحبط منه، تأتي الطمأنة الربانية بحجب الخوف والحزن عن أولياء الله، كما هو واضح في الآية 62 من سورة يونس، المثبت نصها أعلاه، ويبين الشنقيطي أن الْخَوْف فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَالْحَزَنُ: الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مَاضٍ، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ .
وَإِطْلَاقُ الْخَوْفِ عَلَى الْغَمِّ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 7 /140)
والْمُتَّقونَ هم أَوْلِيَاء الله، وَهُوَ وَلِيُّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالْجَزَاءِ، وبَيَّنَ الله الْمُرَادَ بِأَوْلِيَائِهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}. (يونس: 62- 63) وقوله تعالى:{وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (النمل:53) وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ»: {...وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (الجاثية:19).
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ...} (المائدة:55) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة: 257)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد:11) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 7 /201 بتصرف)
ويبين ابن عاشور أن معنى {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أنهم لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمن من أن يصيبهم مكروه يخاف من إصابة مثله، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجساً من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يعلم حالهم لا يخاف عليهم؛ لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سليماً من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يخاف عليهم أولياؤهم؛ لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجسون منه خيفة، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافاً إلى فاعله، وهو غيرهم لا محالة، أي لا خوف يخافه خائف عليهم، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم، وتحل السكينة محله، كما قال تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة: 25 – 26)، وقال تعالى لموسى: {لَا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى} (طه: 77)، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201) ودعا النبي، صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ» (صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم). ثم خرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45).
ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} مع الابتداء به، وإيراد الفعل بعده مسنداً مفيداً تقوي الحكم؛ لأن الحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها، فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله، والخوف يكون قبل حصوله، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) (صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إنا بك لمحزونون)، فذلك حزن وجداني لا يستقر، بل يزول بالصبر، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم، وهو حزن المذلة، وغلبة العدو عليهم، وزوال دينهم وسلطانهم، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم، ولا يجدون تخلصا منه.
فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه، وأن لا يحل بهم ما يحزنهم، ولما كان ما يخاف منه من شأنه أن يحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكداً لمعنى نفي خوف خائف عليهم. وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا، كقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (طه: 67). (التحرير والتنوير، 11 /123-124بتصرف)
معززات لنفي الخوف والحزن عن المؤمنين
تكرر نفي الخوف والحزن عن المؤمنين في عدد من الآيات القرآنية؛ فبالإضافة إلى الآية الكريمة الثانية والستين من سورة يونس المثبت نصها أعلاه، فإن في سورة البقرة ست آيات تؤكد هذا النفي، وهي:
{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:38)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:62)
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:112)
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون} (البقرة:262)
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:274)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:277)
وهناك آية في كل من سورة آل عمران، والمائدة، والأنعام، والزخرف، والأحقاف، وآيتان في سورة الأعراف، تتضافر في تأكيد نفي الخوف والحزن عن المؤمنين، ففي سورة آل عمران يقول عز وجل: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (آل عمران:170) وفي سورة المائدة يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة:69) وفي سورة الأنعام يقول جل ذكره: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأنعام:48)، والله عز وجل في سورة الزخرف يقول: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} (الزخرف:68)، وفي سورة الأحقاف يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأحقاف:13)
وفي سورة الأعراف يقول سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأعراف:35)، ويقول تعالى: {أَهَـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} (الأعراف:49)
فهذا التركيز القرآني على نفي الخوف والحزن عن المؤمنين يشير إلى عمق دلالته وأثره وأهميته، ويشير من جانب آخر إلى أهمية نعمة النجاة من الخوف والحزن، فتلك من آلاء الله الكبرى التي يتفضل بها على عباده المؤمنين والمتقين وعلى أصفيائه من خلقه.
فهذه وقفة جديدة يسر الله إليها عند مسألة من مسائل الحزن، تعلقت بنفيه الحزن والخوف عن أولياء الله المؤمنين والمتقين، آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بمضمون حديث أَنَس بْن مَالِكٍ، حول الاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، كما رويت عن الرسول الأسوة محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
23 محرم 1447هـ