.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يستعيذ بالله من الهم والحزن وأمور أخرى - الحلقة السابعة

==========================================================

الملائكة نهت أم أخيه موسى، عليه السلام، عن الخوف والحزن، حسب ما جاء في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:7)
وقفت الحلقة السابقة عند نهي لوط، عليه السلام، عن الخوف والحزن، إذ لم يقتصر النهي عنهما، على النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، فحسب، بل نهي عنهما أنبياء وصالحون من عباد الله السابقين، فالملائكة نهت لوطاً، عليه السلام، عن الخوف والحزن، لما جاءته من عند إبراهيم، عليهما السلام، على صورة البشر، وخاف عليهم من قومه؛ لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله، والقوم كما عرف حالهم، فسيء بهم؛ أي جاءه ما ساءه وخاف، ثم عجز عن تدبيرهم، فحزن وضاق بهم ذرعاً؛ كناية عن العجز في تدبيرهم.
ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر، وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر، قالوا لا تخف علينا، ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا، ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه، فقالوا معرضين بحالهم إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ، وإنا منزلون عليهم العذاب، حتى يتبين له أنهم ملائكة، فيطول ذرعه، ويزول روعه.
فهو موقف بلا ريب عصيب، تعرض له نبي الله لوط، عليه السلام، لكن رعاية الله كفلت إزاحة الخوف والحزن المترتبين عليه، فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا، ولا تحزن على قصدهم إيانا، وعدم اكتراثهم بك، ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل إعلامهم إياه أنهم رسل الله تعالى فظاهر، وإن كان بعد الإعلام فهو لتأنيسه، وتأكيد ما أخبروه به.
ومن النواهي المثبتة في القرآن الكريم عن الخوف والحزن، نهي الذين قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا عن الخوف والحزن، ضمن التكليف الرباني للملائكة بذلك.
وتنزل الملائكة على المؤمنين، يحتمل أن يكون في وقت الحشر، وذكر التنزل هنا للتنويه بشأن المؤمنين أن الملائكة ينزلون من علوياتهم لأجلهم، فأما أعداء الله فهم يجدون الملائكة حضراً في المحشر يوزعونهم، وليسوا يتنزلون لأجلهم.
ويجوز أن يكون تنزل الملائكة عليهم في الدنيا، وهو تنزل خفي يعرف بحصول آثاره في نفوس المؤمنين، ويكون الخطاب بـ {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} (فصلت: 30)، بمعنى إلقائهم في روعهم، عكس وسوسة الشياطين القرناء بالتزيين، أي يلقون في أنفس المؤمنين ما يصرفهم عن الخوف والحزن ويذكرهم بالجنة، فتحل فيهم السكينة، فتنشرح صدورهم بالثقة بحلولها، وهذا يقتضي أن المؤمنين الكاملين لا يخافون غير الله، ولا يحزنون على ما يصيبهم، ويوقنون أن كل شيء بقدر، وهم فرحون بما يترقبون من فضل الله.
نهي أم موسى عن الخوف والحزن
الآية السابعة من سورة القصص المثبت نصها أعلاه، تخبر عن نهي أم موسى، عليه السلام، عن الخوف والحزن، على إثر أمرها بإلقائه في اليم، وقد اقترن هذا النهي بطمأنتها برده إليها، وجعله من المرسلين، فالموقف على بالغ صعوبته إذ تلقت أم أمراً بإلقاء وليدها في البحر، إلا أن الطمأنة ترافقت مع هذا الأمر، مما يعني أن الله الذي يبتلي بالصعاب والمشاق والمحن، فإنه سبحانه يتكفل بالإنجاء والحماية والإنقاذ، ومعنى {فَإِذا خِفْتِ عَلَيهِ} من القتل {فألقيه في اليمِّ} أي في البحر، وهو نيل مصر، {وَلَا تخافي} عليه من الغرق والضياع، {وَلا تَحْزنِي} لفراقه، {إِنّا رادّوهُ إِلَيْكِ} بوجه لطيف؛ لتُربيه، {وَجاعِلوهُ مِنَ الْمرسَلينَ}. والفرق بين الخوف والحزن؛ أن الخوف: غم يلحق الإنسان لِتَوَقُّعِ مكروه، والحزن: غم يلحق الإنسان لواقع أو ماضٍ، وهو الآن فراقه والإخطار به. فنُهيت عنهما، وبُشرت برده وجعله من المرسلين. (البحر المديد، 5/379)
ويبين ابن الجوزي أن قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّه إِلهام، قاله ابن عباس. والثاني: أنَّ جبريل أتاها بذلك، قاله مقاتل.
والثالث: أنَّه كان رؤيا منام، حكاه الماوردي.
وفي قوله: {فَإذا خِفْتِ عَلَيْه} قولان: أحدهما: إِذا خِفْتِ عليه القتل، قاله مقاتل.
والثاني: إِذا خِفْتِ {عَلَيْه} أن يصيح أو يبكي فيُسمع صوتُه، قاله ابن السائب.
وفي قوله: {ولا تَخافي} قولان:
أحدهما: أن يغرق، قاله ابن السائب. والثاني: أن يضيع، قاله مقاتل .
وقال الأصمعي: قلت لأعرابية: ما أفصحكِ! فقالت: أوَ بعد هذه الآية فصاحة؟! وهي السابعة من القصص، جمع فيها بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين؟! (زاد المسير لابن الجوزي، 5 /41)
نفي الخوف والحزن عن المنفقين في سبيل الله
المنفقون في سبيل الله الذين لا يتبعون إنفاقهم مناً وأذى، هم من أصناف الناس الذين ينعم الله عليهم بالحماية من الخوف والحزن، مصداقاً لقوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 262)
وقد أَعلم الله المُنْفِقِينَ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى من مبطلات الصَّدَقَةَ، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (البقرة: 264) لِمَا فِيهِ مِنْ جَرْحِ شُعُورِ الْمِسْكِينِ، فالمطلوب إنفاق من غير من وأذى، وقد فضل الله قول المعروف على الصدقة التي تُتْبع بأذى فقال تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة:263)
المن : أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه؛ بحيث يقول: أنا فعلت معه كذا، وكذا إظهاراً لميزته عليه. والأذى: أن يتطاول عليه بذلك. ويقول: لولا أنا لم يكن منك شيء مثلاً. فمن فعل هذا فقد ذهبت صدقته هباءً منثوراً، ومن سلم من ذلك، وأنفق ماله ابتغاء وجه الله فـ {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. وقال زيد بن أسلم، رضي الله عنه: إذا أعطيت أحداً شيئاً وظننت أن سلامَكَ يَثْقُلُ عليه، فَكُفَ سلامَكَ عنه. (البحر المديد، 1 /340)
ويبين الزحيلي أن في قوله تعالى: {مَنًّا وَلا أَذًى} ذكر العام بعد الخاص، لإفادة الشمول لأن الأذى أعمّ من المنّ. (التفسير المنير، 3 /41)
فإذا خاف الناس يوم القيامة، لما بين أيديهم من هول، وإذا حزنوا يومه لما فاتهم من عمل صالح يقدمونه لهذا اليوم.. فالمنفقون في سبيل الله دون مَنّ ولا أذى قد آمنهم اللّه من الخوف لما يرون من بشريات الجزاء الحسن لأعمالهم الصالحة، وقد أخلى قلوبهم من الحزن على أن لم يكونوا قدموا لهذا اليوم العظيم. (التفسير القرآني للقرآن، 1 /327)
يذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهما؛ أما عثمان فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها. وفي مناقبه، رضي الله عنه، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يَحْفِرْ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَحَفَرَهَا عُثْمَانُ، وَقَالَ: مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ). (صحيح البخاري، كتاب أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، باب مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشي، رضي الله عنه )
وبعد إحدى عشرة آية من هذه الآية الكريمة من سورة البقرة نفسها تأكيد رباني لنفي الخوف والحزن عن المنفقين في سبيله سبحانه، حيث يقول جل شأنه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:274)، فالذين يُنفقون أموالهم مرضاة لله ليلاً ونهارًا مسرِّين ومعلنين، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا. ذلك التشريع الإلهي الحكيم هو منهاج الإسلام في الإنفاق لما فيه مِن سدِّ حاجة الفقراء في كرامة وعزة، وتطهير مال الأغنياء، وتحقيق التعاون على البر والتقوى؛ ابتغاء وجه الله دون قهر أو إكراه. (التفسير الميسر، 1 /287)
إن هذه الآية خاتمة الآيات الأربعة عشرة التي جاءت في أنواع الصدقات وحال أهلها، وقيل إنها نزلت في علي، كرم اللّه وجهه، إذ بعث بوسق لأهل الصفة ليلاً ومثله نهاراً، وكان ذات يوم يملك أربعة دنانير فتصدق بواحد ليلاً، وبواحد نهاراً، وبالثالث سراً، وبالرابع علناً، وهي عامة جار حكمها في كل متصدق بمقتضاها؛ لأن أكثر آي القرآن العظيم عام، وهذه الآية تؤيد أن نفقة السر أفضل من العلانية؛ لأن اللّه قدم فيها نفقة الليل على نفقة النهار، ونفقة السرّ على العلانية ضمناً، وتشير هذه الآية صراحة إلى الأفضلية.
وقد بين العلماء أن إظهار صدقة الفرض أحسن، للاقتداء بفاعليها، وإخفاء صدقة التطوع أجمل لما فيها من جبر خاطر آخذها بحالة لا ذل فيها ولا انكسار قلب، بل بطيب نفس وقلب منشرح. (بيان المعاني، 5/250)
فهذه وقفة جديدة يسر الله إليها عند مسألة من مسائل الحزن، تعلقت بنهي أم موسى، عليه السلام، عنه والخوف، وفي نفيهما عن المنفقين أموالهم في سبيل الله بغير مَنّ ولا أذى، آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بمضمون حديث أَنَس بْن مَالِكٍ، حول الاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، كما رويت عن الرسول الأسوة، محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
7 صفر 1447هـ

تاريخ النشر 2025-08-01
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس