.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يستعيذ بالله من الهم والحزن وأمور أخرى - الحلقة السادس

==========================================================

الملائكة نهت أخاه لوطاً عن الخوف والحزن، حسب ما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (العنكبوت:33)
بالتزامن مع الاستعاذة من الحزن، والنهي عن المحبط منه، وقفت الحلقة السابقة عند الطمأنة الربانية بحجب الخوف والحزن عن أولياء الله، والْخَوْف فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَالْحَزَنُ: الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مَاضٍ. وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ، وَإِطْلَاقُ الْخَوْفِ عَلَى الْغَمِّ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ. ومعنى {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [يونس: 62] أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمن من أن يصيبهم مكروه يخاف من إصابة مثله، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجساً من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يعلم حالهم لا يخاف عليهم؛ لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سليماً من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يخاف عليهم أولياؤهم؛ لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجسون منه خيفة، والحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها، فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله، والخوف يكون قبل حصوله، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا، فذلك حزن وجداني لا يستقر، بل يزول بالصبر، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن المذلة وغلبة العدو عليهم، وزوال دينهم وسلطانهم، فالله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه، وأن لا يحل بهم ما يحزنهم.
وقد تكرر نفي الخوف والحزن عن المؤمنين في عدد من الآيات القرآنية، ففي سورة البقرة ست آيات تؤكد هذا النفي، وهناك آية في كل من سورة آل عمران، والمائدة، والأنعام، والزخرف، والأحقاف، وآيتان في سورة الأعراف، تتضافر في تأكيد نفي الخوف والحزن عن المؤمنين، وهذا التركيز القرآني على نفي الخوف والحزن عن المؤمنين يشير إلى عمق دلالته وأثره وأهميته، ويشير من جانب آخر إلى أهمية نعمة النجاة من الخوف والحزن، فتلك من آلاء الله الكبرى التي يتفضل بها على عباده المؤمنين والمتقين وعلى أصفيائه من خلقه.
نهي لوط، عليه السلام، عن الخوف والحزن
لم يقتصر النهي عن الخوف والحزن على النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، فحسب، بل نهي عنهما أنبياء وصالحون من عباد الله السابقين، فالملائكة نهت لوطاً، عليه السلام، عن الخوف والحزن، وفق ما جاء في الآية 33 من سورة العنكبوت المثبت نصها أعلاه.
فلما جاءت الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط، عليهما السلام، على صورة البشر، ظنهم بشراً، وخاف عليهم من قومه؛ لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله، والقوم كما عرف حالهم، فسيء بهم؛ أي جاءه ما ساءه وخاف، ثم عجز عن تدبيرهم، فحزن وضاق بهم ذرعاً؛ كناية عن العجز في تدبيرهم.
ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر، وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر، قالوا لا تخف علينا، ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا، ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه، فإن مجرد قول القائل: "لا تخف" لا يوجب زوال الخوف، فقالوا معرضين بحالهم {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ}، وإنا منزلون عليهم العذاب، حتى يتبين له أنهم ملائكة، فيطول ذرعه، ويزول روعه.
ويبين الرازي أن قولهم: {لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} لا يناسبه {إِنَّا مُنَجُّوكَ} لأن خوفه ما كان على نفسه، لكن للقولين مناسبة في غاية الحسن، وهي أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا، ولا تحزن لأجلنا، فإنا ملائكة، ثم قالوا له: يا لوط خفت علينا، وحزنت لأجلنا، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف، نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك، ولا نتركك تفجع في أهلك، فقالوا: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ}. (تفسير الرازي، مفاتيح الغيب، 25 /54-55)
فهو موقف بلا ريب عصيب، تعرض له نبي الله لوط، عليه السلام، لكن رعاية الله كفلت إزاحة الخوف والحزن المترتبين عليه، ويبين الألوسي معنى ضاق بهم ذرعاً، أي وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه؛ أي طاقته، كقولهم: ضاقت يده، ويقابله رحب ذرعه بكذا، إذا كان مطيقاً له قادراً عليه، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيره، وقالوا: {لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} وذلك بعد أن شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم، وعاينوا أنه قد عجز عن مدافعة قومه، حتى آلت به الحال إلى أن قال كما هو موصوف في سورة هود: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (هود: 77-81)
ويضيف الألوسي أن الخوف للمتوقع، والحزن للواقع في الأكثر، وعليه فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا، ولا تحزن على قصدهم إيانا، وعدم اكتراثهم بك، ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل إعلامهم إياه أنهم رسل الله تعالى فظاهر، وإن كان بعد الإعلام فهو لتأنيسه، وتأكيد ما أخبروه به. (روح المعاني، 20 /155 بتصرف)
نهي الذين قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا عن الخوف والحزن
من النواهي المثبتة في القرآن الكريم عن الخوف والحزن، نهي الذين قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا عن الخوف والحزن، ضمن التكليف الرباني للملائكة بذلك، حسب ما جاء في قوله جل شأنه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)
يبين الطاهر بن عاشور أن الاستقامة حقيقتها: عدم الاعوجاج والميل، والسين والتاء فيها للمبالغة في التقويم، فحقيقة استقام: استقل غير مائل ولا منحن. وتطلق الاستقامة بوجه الاستعارة على ما يجمع معنى حسن العمل والسيرة على الحق والصدق، قال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (فصلت: 6) ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة:7)، فـ {اسْتَقَامُوا} هنا يشمل معنى الوفاء بما كلفوا به، وأول ما يشمل من ذلك أن يثبتوا على أصل التوحيد، أي لا يغيروا ولا يرجعوا عنه.
ومن معنى هذه الآية ما روي عن سفيان الثقفي: قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ - قَالَ: " قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ). (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام]
وأشار قوله {اسْتَقَامُوا} إلى أساس الأعمال الصالحة وهو الاستقامة على الحق، أي أن يكون وسطاً غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط قال تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6)
وتنزل الملائكة على المؤمنين، يحتمل أن يكون في وقت الحشر، كما دل عليه قولهم: {الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ، وكما يقتضيه كلامهم لهم؛ لأن ظاهر الخطاب أنه حقيقة، فذلك مقابل قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (فصلت:19) فأولئك تلاقيهم الملائكة بالوزع، والمؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالأمن.
وذكر التنزل هنا للتنويه بشأن المؤمنين أن الملائكة ينزلون من علوياتهم لأجلهم، فأما أعداء الله فهم يجدون الملائكة حضراً في المحشر يوزعونهم، وليسوا يتنزلون لأجلهم، فثبت للمؤمنين بهذا كرامة ككرامة الأنبياء والمرسلين، إذ ينزل الله عليهم الملائكة. والمعنى: أنه يتنزل على كل مؤمن ملكان، هما الحافظان اللذان كانا يكتبان أعماله في الدنيا. ولتضمن {تتنزل} معنى القول وردت بعده "أن" التفسيرية. والتقدير: يقولون لا تخافوا ولا تحزنوا.
ويجوز أن يكون تنزل الملائكة عليهم في الدنيا، وهو تنزل خفي يعرف بحصول آثاره في نفوس المؤمنين، ويكون الخطاب بـ { أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا } بمعنى إلقائه في روعهم، عكس وسوسة الشياطين القرناء بالتزيين، أي يلقون في أنفس المؤمنين ما يصرفهم عن الخوف والحزن ويذكرهم بالجنة، فتحل فيهم السكينة، فتنشرح صدورهم بالثقة بحلولها، وهذا يقتضي أن المؤمنين الكاملين لا يخافون غير الله، ولا يحزنون على ما يصيبهم، ويوقنون أن كل شيء بقدر، وهم فرحون بما يترقبون من فضل الله. (التحرير والتنوير، 25 /49-51 بتصرف)
فالله تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون المؤمنين بأنه لا خوف عليهم بسبب ما يستقبلونه من أحوال القيامة، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتهم من أحوال الدنيا، وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع، وهو قوله تعالى: { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } وهذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت، وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد، بل يكون آمن القلب، ساكن الصدر؛ لأن قوله: { أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا } يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق. (تفسير الرازي، مفاتيح الغيب، 27 /106 بتصرف)
فهذه وقفة جديدة يسر الله إليها عند مسألة من مسائل الحزن، تعلقت بنفيه والخوف عن نبي من أنبياء الله، وهو لوط، عليه السلام، وعن أصفياء الله، وهم الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، آملين التوفيق لمتابعة تفاصيل ومسائل أخرى تتعلق بمضمون حديث أَنَس بْن مَالِكٍ، حول الاستعاذة مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، كما رويت عن الرسول الأسوة محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
30 محرم 1447هـ

تاريخ النشر 2025-07-25
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس