.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يشرع التعبد لله بالصيام والفطر - الحلقة الثانية

==========================================================

عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (بَلَغَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ، فَقَالَ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلاَ تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي؟ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا»، قَالَ: إِنِّي لَأَقْوَى لِذَلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ» قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى»، قَالَ: مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ - قَالَ عَطَاءٌ: لاَ أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الأَبَدِ - قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» مَرَّتَيْنِ)(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب حق الأهل في الصوم)
وقفت الحلقة السابقة عند فرض الله الصيام في رمضان، والإفطار عقبه، ليتمتع العابد بالإباحة عقب التزامه بالكف والإمساك، ويشمل ذلك النهي عن صيام أيام التشريق الثلاثة التي تلي يوم الأضحى -النحر- وسميت أَيَّام التَّشْرِيق لِأَن لُحُوم الْأَضَاحِي تشرق فِيهَا، أَي: تنشر فِي الشَّمْس، وَقيل لأسباب أخرى، واخْتلف فِي تعْيين أَيَّام التَّشْرِيق، وَالأَصَح أَنَّهَا ثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر.
وبينت الحلقة أن التعبد لله يكون بالأكل والشرب، وأن الصائم يفرح بفطره، ما يعني أن الفطر سلوك مبهج يعبر عن السعادة بأداء الصوم، وفي الوقت نفسه؛ فإنه يعبر عن السعادة بالتحلل من قيد الصيام، أي أن الصيام والفطر يتضافران في تحقيق النفع والخير للصائم، فمنع الصيام في عيد الفطر بعد فرض الصيام في شهر رمضان، يشير إلى أن الله سبحانه يحب لنا أن نأكل ونتمتع بالطعام والشراب والملذات المباحة شرعاً، كما يحب لنا العمل بأمره سبحانه بالإمساك عنها في نهار الصيام، ومما هو ثابت في شرعنا، أن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، وبالتالي؛ فإن المسلم يتعبد لله في صيامه وفطره على حد سواء؛ لأنه في الحالين ينفذ أمر الله، ويلتزم طاعته سبحانه.

النهي عن سرد الصوم ومواصلته
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، المثبت نصه أعلاه، مبين فيه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يقره على سرد الصوم، ليتمكن من أداء الحقوق المطلوبة منه لعينه ونفسه وأهله، ما يعني الاستراحة من التزام العبادة، حتى يتمكن من الوفاء بالتزاماته الأخرى، ومعنى (أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ)، بضم الراء، أي أصوم متتابعًا ولا أفطر، (وَأُصَلِّي اللَّيْلَ) كله، (فَإِمَّا أَرْسَلَ) عليه الصلاة والسلام، (إِلَيَّ، وَإِمَّا لَقِيتُهُ) عليه الصلاة والسلام من غير إرسال (فقال): (أَلَمْ أُخْبَرْ) بضم الهمزة، (أَنَّكَ تَصُومُ وَلاَ تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي) أي الليل (فَصُمْ وَأَفْطِرْ) بهمزة قطع (وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا) أي نصيبًا من النوم (وَإِنَّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا) وحق النفس الرفق بها، والأهل في الكسب والقيام بنفقتهم، ولا يُدئِب نفسه بحيث يضعف عن القيام بما يجب من ذلك، (قَالَ) عبد الله، (إِنِّي لَأَقْوَى لِذَلِكَ) أي لسرد الصوم دائمًا، (قَالَ) عليه الصلاة والسلام: (فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (قَالَ) عبد الله: يا رسول الله (وَكَيْفَ)؟ أي صيام داود، (قَالَ) عليه الصلاة والسلام: (كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلاَ يَفِرُّ) أي لا يهرب، (إِذَا لاَقَى) العدو، أشار به إلى أن الصوم على هذا الوجه لا ينهك البدن بحيث يضعف عن لقاء العدو، بل يستعان بفطر يوم على صيام يوم، فلا يضعف عن الجهاد وغيره من الحقوق. (قَالَ) عبد الله (مَنْ لِي بِهَذِهِ؟) الخصلة الأخيرة، وهي عدم الفرار، أي من يتكفل لي بها يا نبي الله؟(إرشاد الساري، شرح القسطلاني:3/406)
لا صام من صام الأبد
يستطرد القسطلاني في شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، المثبت نصه أعلاه، فيبين أن عطاء: هو ابن أبي رباح حسب المبين في الإسناد الآخر، وقول عطاء: (لاَ أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الأَبَدِ؟) أي لا أحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة، إلا أني أحفظ أنه (قال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَد مَرَّتَيْنِ) استدلّ به من قال بكراهة صوم الدهر؛ لأن قوله: لا صام يحتمل الدعاء، ويحتمل الخبر.
قال ابن العربي: إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعًا فلم يكتب له ثواب لوجوب صدق قوله عليه الصلاة والسلام، لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وأجيب بأجوبة:
أحدها: أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيد والتشريق. قال النووي: وبهذا أجابت عائشة. وهو اختيار ابن المنذر وطائفة، وتعقب بأنه عليه الصلاة والسلام، قال جوابًا لمن سأله عن صوم الدهر: "لا صام ولا أفطر" وهو يؤذن بأنه لا أجر ولا إثم، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك؛ لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبًا وحرامًا، وأيضًا؛ فإن الأيام المحرمة مستثناة في الشرع غير قابلة للصوم شرعًا، فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض، فلم تدخل في السؤال عند من علم بتحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله: لا صام ولا أفطر لمن لم يعلم بتحريمها، قاله في فتح الباري.
الثاني: أنه محمول على من تضرر به، أو فوت به حقًا، ويؤيده أن النهي كان خطابًا لعبد الله بن
عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره، وندم على كونه لم يقبل الرخصة.
الثالث: أن معناه الخبر عن كونه لم يجد من المشقّة ما يجد غيره، لأنه إذا اعتاد ذلك لم يجد في صومه مشقة، وتعقبه الطيبي بأنه مخالف لسياق الحديث، ألا تراه كيف نهاه أولاً عن صيام الدهر كله، ثم حثه على صوم داود، عليه الصلاة والسلام، والأولى أن يكون خبرًا عن أنه لم يمتثل أمر الشرع.(إرشاد الساري، شرح القسطلاني:3/406)
رواية مسلم حول سرد الصيام وتعقيب النووي
رواية مسلم: عن عَطَاءً، يَزْعُمُ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: (بَلَغَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ، فَقَالَ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي اللَّيْلَ؟ فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكَ حَظًّا، وَلِأَهْلِكَ حَظًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ» قَالَ: إِنِّي أَجِدُنِي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ: «فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ» قَالَ: وَكَيْفَ كَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى» قَالَ: مَنْ لِي بِهَذِهِ؟ يَا نَبِيَّ اللهِ، - قَالَ عَطَاءٌ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ - فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ»(صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً...)
يعقب النووي على الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَابِ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ، ويبين اخْتَلَافَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ أَهْل الظَّاهِرِ إِلَى مَنْعِ صِيَامِ الدَّهْرِ نَظَرًا لِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِهِ إِذَا لَمْ يَصُمِ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا، وَهِيَ الْعِيدَانِ وَالتَّشْرِيقُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ سَرْدَ الصِّيَامِ إِذَا أَفْطَرَ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقَ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَلَا يُفَوِّتَ حَقًّا، فَإِنْ تَضَرَّرَ أَوْ فَوَّتَ حَقًّا فَمَكْرُوهٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو، فَأَقَرَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى سَرْدِ الصِّيَامِ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يُقِرَّهُ، لَا سِيَّمَا فِي السَّفَرِ.(صحيح مسلم بشرح النووي:8/40)
العابد السوي
حديث حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو المذكور في صحيح البخاري، ترويه عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، - زَوْجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونصه: (أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟
- وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ -، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ)(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم في السفر والإفطار)
فعن صيام الدهر أو السرد في الصيام نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، وبخاصة للذي لا يقوى بدنياً على تحمل ذلك، أو للذي تتأثر نشاطاته الحياتية بذلك، ما يعنى أن القيام بمتطلبات المعيشة مطلب شرعي، ينبغي أن لا يؤثر التطوع بالعبادات في التقصير فيه، فالذي يهتدي للموازنة السليمة بين تنفله بالعبادة وأداء واجباته الأخرى تجاه نفسه وأهله ومجتمعه هو النموذج السوي، للعابد العامل، والله تعالى أعلى وأعلم.
فهذه وقفة أخرى مع بعض جوانب الحديث عن التعبد لله بالصيام والفطر، آملين أن ييسر الله متابعة الحديث عن هذا الموضوع، ونسأله سبحانه أن يهدينا صراطه المستقيم، لنعبده سبحانه كما أمر وحسب ما يحب، على نهج نبينا وخاتم النبيين والمرسلين، محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أفضل الصلاة وأتم التسليم.
17 شوال 1445هـ

تاريخ النشر 2024-04-26
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس