عن شُعْبَة أَخْبَرَنَا أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ، قَالَ: (تَمَتَّعْتُ، فَنَهَانِي نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَأَمَرَنِي، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا يَقُولُ لِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: سُنَّةَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي، قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ فَقَالَ لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُ). (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي)
بمناسبة عودة حجاج بيت الله الحرام الميمونة إلى ديارهم وأهليهم، برفقة جائزة تتويجهم بالغفران ومحو الذنوب السابقة، يُعنى الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والزملاء بتهنئة الحجاج بهذا الإنجاز العظيم، وبعودتهم سالمين إلى أماكن إقامتهم الدائمة، ومما ورد في تهنئتهم الدعاء لهم بأن يكون حجهم مبروراً، كما في الرؤية المشار إليها في الحديث أعلاه، حيث إن الرجل الذي رآه نصر بن عمران الضبعي في منامه بعد أدائه عمرة متمتعاً بها إلى الحج، قال له: "حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ" فكأنَّه يَدْعو له بقَبولِ الحجِّ والعُمرةِ والتَّمتُّعِ بهما، والسياق يدل على أن هذه العبارة قيلت بصيغة الدعاء، ويزيد الناس عادة على هذه العبارة زيادة حسنة بقولهم للحاج أو المعتمر: "وسعي مشكور، وذنب مغفور، وتجارة لا تبور".
دعاء غير ملزم
الدعاء للحاج أو المعتمر بهذه الصيغة أو تلك، غير ملزم، فهو من باب التفاؤل والنطق بالخير، وهذا يمكن أن يتم بالصيغة هذه أو ما شابهها من كلام الخير، والعبرة تكون بصدق الدعاء والإخلاص فيه، لا بألفاظه وعباراته، والفرق شاسع بين دعاء المجاملة، وبين العزم فيه على طلب الخير للمدعو إليه، بأن يكون حجه مبروراً، وفي كل خير، إذ إن الطلب من الله قبول حج الحاج أو عمرة المعتمر، يتعبد به الداعي إلى الله، فالدعاء هو مخ العبادة، والله تعالى يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60)
ودعاء المجاملة وإن تدنى في المستوى والأثر عن الدعاء المخلص والمقصود، فإنه يبقى يدور في دائرة الملاطفة والقول الطيب، والفأل الحسن، وبعض الناس يهنئون الحاج والمعتمر بعد أدائهما مناسك الحج أو العمرة، بأقوال وعبارات أخرى، كقولهم: تقبل الله منك، والحمد لله على سلامتك، وهنيئاً لك، وما إلى ذلك من عبارات الخير، ولا بأس بذلك، إذ إن الأمر فيه سعة، وليس من الأمور التي تحصر الأقوال فيها بعبارات أو ألفاظ دون سواها، والله تعالى أعلى وأعلم.
الحج المبرور
ورد ذكر الحج المبرور في أحاديث نبوية صحيحة، وتكرر ذكره كثيراً في شروح الحديث، وكتب الفقه ومراجعه، ويُعْنى بذلك أن يؤدى الحج على الوجه الشرعي المطلوب، وفق ما أُثر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي حث على أخذ مناسك الحج عنه، كما جاء في حديث جابر، رضي الله عنه، رَأَيْتُ النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، يَرْمِى عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ). (صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم السفر راكباً)
وإلى جانب أداء الحج على الوجه المسنون ينبغي أن يكون خالصاً نقياً من الذنوب والخطايا، حتى يكون مبروراً، وفي معناه قيل المراد به الحج المقبول، وقيل الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي، وقال القرطبي: الأقوال في تفسيره متقاربة المعنى، وحاصلها أنه الحج الذي وفيت أحكامه، فوقع موافقاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل.(تحفة الأحوذي، 3 /454)
ويبين القاضي عياض عن شمر أنه الذي لا يخالطه شيء من المأثم، ومنه: برَت يمينه إذا سلمت من الحنث، وبرَّ بيْعهُ إذا سلم من الخدل والخلابة. وقال الحربي: بُرَّ حَجُّك - بضم الباء - وبَرَ اللهُ حجك-بفتحها- إذا رجع مبروراً مأجوراً.
وقيل: المبرور: المتقبل، فعلى هذا يكون من البر الذي هو فعل الجميل فيه والبذل، ومنه بر الوالدين والمؤمنين، ويكون -أيضأَ- فى هذا كله بمعنى الطاعة، ويكون بمعنى الصدق، وضده الفجور، فيكون الحجُّ المبرور الصادق الخالص لله تعالى. (إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، 1 /239)
أفضل الجهاد والعمل
الحج المبرور يحظى بمنزلة رفيعة وسامية في دين الله، ومن ذلك تقدمه على جهاد التطوع، فعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ). (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الجهاد والسير)
يذكر ابن بطال: إنما جعل الجهاد فى هذا الحديث أفضل من الحج؛ لأن ذلك كان فى أول الإسلام وقلَّته، وكان الجهاد فرضًا متعينًا على كل أحد، فأما إذ ظهر الإسلام وفشا، وصار الجهاد من فروض الكفاية على من قام به، فالحج حينئذ أفضل؛ ألا ترى قوله لعائشة: (جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ) (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب جهاد النساء)
لما لم يكنّ من أهل القتال والجهاد للمشركين، فإن حلَّ العدو ببلدة واحتيج إلى دفعه، وكان له ظهور وقوة وخيف منه؛ توجه فرض الجهاد على العيان، وكان أفضل من الحج، والله أعلم. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 4 /190 بتصرف)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ أَيُّ الْأعَمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ). (صحيح البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور)
يبين ابن بطال بأنه اختلف في ترتيب أفضل الأعمال، مع أنه قد يكون العمل في وقت أوكد وأفضل منه في وقت آخر، كالجهاد الذي يتأكد مرةً، ويتراخى مرةً. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 10 /534)
ويوضح السفيري أن ظاهر الحديث يقتضي أن الجهاد أفضل من الحج، وهو محمول على حج النافلة، وأما حجة الإسلام، فإنها أفضل من الجهاد، هذا إذا كان الجهاد فرض كفاية، أما إذا كان فرض عين فإنه مقدم على حجة الإسلام قطعاً؛ لوجوب فعله على الفور.
والحج هو قصد الكعبة لأجل النسك، مع الوقوف بعرفة، والحج المبرور قيل: هو المقبول، ومن علامة قبول حج الإنسان أنه إذا رجع يكون حاله خيراً من الحال الذي كان قبله، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، وقيل: هو الذي لا تعقبه معصية، وقيل: هو الذي لا ترتكب فيه المعاصي، قال بعضهم:
فمن كان بالمال الحرام حجيجه ... فعن حجة والله ما كان غناه
إذا هو لبى الله كان جوابه ... من الله لا لبيك حجك رددناه (شرح صحيح البخاري لشمس الدين السفيري، 25 /29-30)
الجنة جزاء الحج المبرور
ضمن الكرم الإلهي الفائض والواسع، يتفضل سبحانه على الذي يحج حجاً مبروراً بجائزة محو الذنوب السابقة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (صحيح البخاري، كتاب المحصر، باب قول الله عز وجل: {ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة: 197)
قوله: "فلم يرفث" الرفث الجماع، ويطلق على التعريض به، وعلى الفحش في القول. وقال الأزهري: الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء. وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} (البقرة: 197)، والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع. والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي، وهو المراد بقوله في الصيام: (وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ) (صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم صالح إذا شتم) وقوله: "ولم يفسق" أي لم يأت بسيئة ولا معصية، وقال بعضهم: أصله انفسقت الرطبة إذا خرجت، فسمي الخارج عن الطاعة فاسقاً. (فتح الباري تعليق ابن باز، 3 /382 بتصرف)
يبين العيني معنى قوله: (رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) أي رجع مشابهاً لنفسه في البراء من الذنوب في يوم ولدته أمه، ورجع بمعنى صار، جواب الشرط، ولفظ (كيوم) يجوز فيه البناء على الفتح. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 /207)
ويتبع هذه المكافأة إكرام الحاج بجزاء يتمناه كل مؤمن عاقل، ويتمثل في نيل الجنة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ). (صحيح البخاري)
يبين الناوي أن قوله، صلى الله عليه وسلم: (ليس له جزاء إلا الجنة) أي إلا الحكم له بدخول الجنة، فلا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخلها، أي مع السابقين، أو بغير عذاب، وإلا فكل مؤمن يدخلها وإن لم يحج. (فيض القدير، 3 /406)
وبهذا نختم بما تيسر التطرق إليه بهذا العرض المقتضب الذي تعرض بداية لتهنئة الحاج والمعتمر على أدائهما المناسك وعودتهما وبحوزتهما جائزة الغفران ومحو الذنوب، لأدائهما حجاً مبروراً على الوجه المشروع والمسنون، نقياً من الذنوب والخطايا والتقصير، على أمل الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، بما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، راجين أن يكون حجاج بيت الله الحرام قد وفقوا لنيل هذا الفوز، بعد أن غادروا بيت الله الحرام الذي حلوا فيه ضيوفاً على أكرم الأكرمين، لا إله إلا هو، سبحانه، ونسأله سبحانه أن ييسر لنا ما تيسر لهم من فتح أبواب الخير، وكسب مرضاة الله، أرحم الراحمين، وأن يعيننا على حسن التأسي بسنة رسولنا الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
17 ذو الحجة 1446هـ