عن عَائِشَةَ، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قال: (إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يُؤَذِّنَ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ) (صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره))
الصيام مدرسة يكتسب الصائمون منها دروساً في القيم والعادات والأخلاق النبيلة، ومن ذلك درس احترام المواعيد والتقيد بها، فكم يعاني الناس من تجاهل الموعد، والتهاون في المواعيد، فتكون دعوة للبدء باحتفال، أو عقد لقاء، أو اجتماع في الساعة كذا، فيتأخر التنفيذ سواء بسبب من الجهة الداعية، أو من المدعوين، إلى ما بعد الموعد بوقت قصير أو طويل، وتنتظر أحياناً ساعة أو أكثر عن الموعد المحدد، وغالباً لا يكون السبب قاهراً، وإنما إهمال في التحضير والاستعداد، أو استهانة بالدعوة والمدعوين إليها، وفي عبادة الصيام دروس عملية لحفظ الموعد، واحترام الوقت، والالتزام بذلك واجب، وليس تطوعياً أو مزاجياً.
بداية يوم الصيام ونهايته
نهار الصيام محدد ببداية، ونهاية، فهو يبدأ ببزوغ فجر اليوم، وينتهي بغروب شمس نهاره، وقد نبه الرسول، صلى الله عليه وسلم، المسلمين في حديث عائشة، رضي الله عنها، أعلاه، إلى الأذان الذي كان يعلن به عن بداية نهار الصيام، وكان وقتها يرفعه الصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم، ويسبقه الصحابي بلال بن رباح بأذان تنبيهي لقرب أذان الفجر، والذي اصطلح على تسميته بأذان الإمساك، فأراد صلى الله عليه وسلم، أن ينبه بأن الأذان الأول الذي يسبق أذان الفجر يباح بعده الأكل والشرب، حتى يرفع أذان الفجر الذي يلزم به الإمساك عن المفطرات، ويدخل به كذلك وقت صلاة الفجر، وما جاء في الحديث أعلاه هو تنفيذ لأمر الله عز وجل، المتضمن في قوله: {...وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ...}. (البقرة: 187)
فمسألة الموعد الدقيق مرتبطة جذرياً بصحة العبادة، والله أشار لذلك في الآيات القرآنية الكريمة التي بينت فرض الصيام وبعض أحكامه، فحدد الصيام بأيام معدودات، في شهر محدد، وألزم من يفطر منها بقضاء في أيام أُخر، فقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 183-185)
احترام المواعيد في العبادات
لقد عني القرآن الكريم بالزمن، فبعض السور القرآنية تتعلق أسماؤها وأوائل ألفاظها بالزمن، ومن ذلك سور الضحى والفجر والعصر، والمتدبر في العبادات جميعها، يجد تحديداً للمواقيت فيها والمواعيد اللازمة لها، فبالإضافة ما تمت الإشارة إليه من مواعيد الصيام كشهر وأيام، وساعات، فقد فرضت الصلاة عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً، مصداقاً لقوله عز وجل: {... إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء:103)، وكل صلاة لها وقت بداية وآخر للنهاية، شمل بعض ذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (الإسراء:78) والزكاة محدد وجوبها بالحول، ووقت الحصاد، فيقول تعالى: {...كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ...}(الأنعام:141)، والحج محدد بأشهر معلومات وأيام معدودات، وعن هذا يقول عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (البقرة:197)، ويقول تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ...} (الحج:28)
ويقول تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة:203)
الالتزام بالموعد
التقيد بالموعد يتماشى مع روح الإسلام وقيمه، ومن العجب أن تصبح هذه السمة من خواص كثير من غير المسلمين، وأن يتجاهلها بعض المسلمين، حتى صار يردد في بعض مناسبات التهاون بالمواعيد بأنها وعود عرب، وهذا مما يؤسف له، ويندى له الجبين.
حالة الاضطرار عن التقصير في التقيد بالمواعيد، قد تحدث، لكن في ظروف استثنائية وطارئة، ويرفض أن يكون ذلك ديدناً، فهذا عيب قبيح، وخلل مرفوض، ومن أمارات مراعاة التقيد بالمواعيد واحترامها، الاعتذار عن الخلل الذي يقع في هذا الجانب، وقد وصل بوزير في إحدى الدول الأجنبية أن تقدم باستقالته من منصبه لتخلفه دقائقَ عن موعد استجواب أمام البرلمان، فكانت الاستقالة مقرونة بالاعتذار، في دلالة واضحة على الاهتمام بالوقت والموعد، واستقباح التقصير في ذلك.
والإسلام يعتبر خلف الوعد، من صفات المنافقين، فعن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو، رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (أَرْبَعُ خِلَالٍ من كُنَّ فيه كان مُنَافِقًا خَالِصًا، من إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا عَاهَدَ غَدَر، وإذا خَاصَمَ فَجَر، وَمَنْ كانت فيه خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانت فيه خَصْلَةٌ من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا) (صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر)
أجارنا الله من النفاق وأهله، وأعاننا سبحانه على حسن طاعته، والتقيد بمواعيدنا، والتأسي بنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
18 رمضان 1442هـ