.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يضرب مثلاً للإخلاص بالهجرة - الحلقة الثالثة

==========================================================

قال تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً منَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر:8)
أشارت الحلقة السابقة إلى جمع لفظ النية في بعض روايات حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقيل (بالنيات) وتم إفراده في روايات أخرى، والروايتان صحيحتان، ولفظة (إنما) فيه تفيد الحصر، تثبت المذكور، وتنفي ما سواه، فتقدير هذا الحديث: أن الأعمال تحسب بنية، ولا تحسب إذا كانت بلا نية، والمراد بالحسبة طلب الثواب.
وتطبيق هذه القاعدة على فعل الهجرة أن من قصد بهجرته وجه الله، وقع أجره على الله، ومن قصد بها دنيا أو امرأة فهي حظه، ولا نصيب له في الآخرة بسبب هذه الهجرة، وأصل الهجرة الترك، والمراد هنا ترك الوطن، ويبين النووي أن ذكر المرأة مع الدنيا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه جاء أن سبب هذا الحديث أن رجلاً هاجر ليتزوج امرأة، يقال لها أم قيس، فقيل له: (مهاجر أم قيس) والثاني: أنه للتنبيه على زيادة التحذير من ذلك، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام، تنبيهاً على مزيته، والله أعلم.
وتماشياً مع شرط قصد رضا الله وطلب مثوبته لقبول الهجرة من المهاجر، فإن الله جل في علاه قيد الهجرة التي تصح موالاة أصحابها بأن تكون في سبيل الله، فقال عز وجل:{...فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله...}(النساء:89)، أي فلا توالوهم حتى يؤمنوا، ويحققوا إيمانهم بهجرة كائنة لله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، لا لغرض من أغراض الدنيا.

تشارك المهاجرين والأنصار في الدوافع والغايات والجزاء
لما وقف صاحب أضواء البيان عند الآية الثامنة من سورة الحشر والمثبت نصها أعلاه، قال: في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة، أنهم {يَبْتَغُونَ فَضْلاً منَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} وغايتها، وهي:{وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه}، والحكم لهم بأنهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه، منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ ونَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ...}(الأنفال:72)، وقال سبحانه:{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ ونَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لهُم مغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(الأنفال:74)
فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر، ووصف الفريقين معاً بولاية بعضهم بعضاً، وأثبت لهم معاً حقيقة الإيمان {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}؛ أي الصادقون في إيمانهم، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان.(أضواء البيان:8/42)

الثناء على الذين يبتغون فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً
الآية القرآنية الكريمة المثبت نصها أعلاه، تثني على المهاجرين الذي لبوا النداء للهجرة بحال يَبْتَغُونَ فيه فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً، وختم الله الثناء على خصائص المهاجرين المذكورة في هذه الآية الكريمة بالشهادة لهم بقوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، والرازي يبين أن هذا التعقيب يعني أنهم لما هجروا لذات الدنيا، وتحملوا شدائدها لأجل الدين، ظهر صدقهم في دينهم.(التفسير الكبير:29/249)
فالله تعالى بين حال الفقراء المستحقين لمال الفيء، أنهم الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، أي خرجوا من ديارهم، وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه، {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}؛ أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين.(تفسير ابن كثير:4/338)
وقد نوه سبحانه في مواضع قرآنية كريمة أخرى بدافع ابتغاء رضوان الله في فعل أمور أخرى غير الهجرة، منها إبراز دافع ابتغاء فضل الله ورضوانه من قبل المتقيدين بأحكام الإحرام عند قصد بيت الله الحرام للحج أو العمرة، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً من ربِّهِمْ وَرِضْوَاناً...}(المائدة:2)
قوله سبحانه:{يَبْتَغُونَ فَضْلاً من ربِّهِمْ وَرِضْوَاناً} قال فيه جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل من الأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم، وهذه الآية نزلت عام الفتح.(تفسير الثعالبي:1/438)
يبين الطبري أن معنى {يبتغون} يطلبون ويلتمسون، والفضل الإرباح في التجارة، والرضوان رضا الله عنهم، فلا يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحل بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم بحجهم بيته.(تفسير الطبري:6/62)
ومن أبرز آيات الثناء على المتقيدين بهذا الدافع تلك التي وصف الله فيها محمداً، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضي الله عنهم، فقال جل شأنه: {مُحَمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً منَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً...}(الفتح:29)، والمراد من قوله سبحانه هنا: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً منَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى.(تفسير القرطبي:16/293)
آملين التمكن من الوقوف عند مزيد من التفصيل والوقفات لضرب المثل للإخلاص بالهجرة، حسب المروي عن نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
14 محرم 1444هـ

تاريخ النشر 2022-08-12
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس