يقول الله تعالى في محكم التنزيل الذي نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين والمرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور:22)
ضمن مؤكدات ضرب المثل للإخلاص بالهجرة، تطرقت الحلقة السابقة إلى وعد المهاجرين في سبيل الله بالرزق الحسن، وأشارت إلى أن هذا الوعد يحمل في طياته طمأنة لهم على ما سيجدون من مصير خلال هجرتهم، وما كان لهم أن ينالوا هذا الجزاء العظيم لولا إخلاصهم لله في هجرتهم، فالمهاجر الموعود بالرزق الحسن في ضوء هذه الآية الكريمة، خرج مهاجراً لله؛ أي كانت هجرته ابتغاء مرضاة الله، كما وعد الله المهاجرين في سبيله بأن يدخلهم مدخلاً يرضونه، وقيل إن المقصود به فتح مكة المشرفة، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور، وقيل دخول الجنة، ولا مانع من قصد الاثنين، فتكون الآية جمعت بين الرزقين؛ رزق الدنيا ورزق الآخرة، واللفظ صالح لذلك كله، والمعنى صحيح، فلا مانع من إرادة الجميع. فالمهاجرون في سبيل الله وعدهم ربهم بالمثوبة الحسنة، التي منها النصر والعز والتمكين في الدنيا، والجنة بما فيها من نعيم مقيم، تلذ به أعينهم وتسر نفوسهم، فطوبى لهم.
التوصية بالمهاجرين في سبيل الله
لأهمية الهجرة المبتغى بها نيل ثواب الله، أوصى الله بأهلها خيراً، ومن ضمن ذلك أمره سبحانه أولي الفضل والسعة بأن يعطوهم مما أفاء الله عليهم من الخيرات، والنعم، والفضل، وسعة الأرزاق، حسب مضمون قوله تعالى في الآية الكريمة الثانية والعشرين من سورة النور المثبت نصها أعلاه، التي حث الله فيها على الصفح والعفو عنهم إن وقعت منهم زلات وأخطاء، بمعنى أن لا يجعل أولو الفضل والسعة أخطاء الأقارب والمساكين والمهاجرين في سبيل الله سبباً لوقف عونهم وتقديم المدد المادي إليهم، فالله يغفر الذنوب والخطايا، ويعفو عن عباده وخلقه، ومنهم المهاجرون في سبيله، يكون قد سلك سبيلاً لنيل غفران الله، وهو الغفور الرحيم، فكما تحبون أن يغفر الله لكم، كذلك اغفروا أنتم لمن أساء إليكم. (التسهيل لعلوم التنزيل، 3/63)
الاستجابة لطلب العفو عن أُوْلِي الْقُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله
ضمن قصة حادثة الإفك ومجرياته، وتداعياتها، تقول أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: (فلما أَنْزَلَ الله هذا في بَرَاءَتِي، قال أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رضي الله عنه، وكان يُنْفِقُ على مِسْطَحِ بن أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ منه، والله لَا أُنْفِقُ على مِسْطَحٍ شيئاً أَبَدًا، بَعْدَ ما قال لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {ولا يَأْتَلِ أولوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ...إلى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بَكْرٍ: بَلَى، والله إني لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ الله لي، فَرَجَعَ إلى مِسْطَحٍ الذي كان يُجْرِي عليه) (صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً)
فأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، لم يتلكأ في الاستجابة لأمر الله بالعفو والصفح عن المنتفعين من صدقات أولي الفضل والسعة التي يقدمونها لأُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فأعاد المخصص المالي الذي كان يمنحه لمسطح، على الرغم مما ارتكب من إساءة تجاه كريمته عائشة، أم المؤمنين، رضي الله عنها، وفي رواية صحيحة أخرى: أن أبا بكر، رضي الله عنه، بعد نزول هذه الآية الكريمة، (رَجَعَ إلى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ التي كان يُنْفِقُ عليه، وقال: والله لَا أَنْزِعُهَا منه أَبَدًا)(صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث الإفك)
والمقصود بأولي الفضل والسعة في الآية الكريمة أَبَا بَكْرٍ، رضي الله عنه، وبـ {أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} يعني مِسْطَحًا. (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة النور: باب {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} النور: 1)
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّهِ بن المُبَارَكِ، قال: (هذه أَرْجَى آيَةٍ في كِتَابِ اللَّهِ). (صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف)
خلاصة الحديث عن ضرب المثل للإخلاص بالهجرة
الإخلاص لله منطلق مشروط لقبول الأعمال والمثوبة عليها، وقد تم بعون الله تعالى الوقوف عند جوانب متعلقة بهذا الموضوع من خلال الحديث عن مثال ضربه الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالهجرة؛ لحصر ربط قبول الأعمال بصفاء النيات، ونقائها لله وحده، فالنية حد فاصل لقبول القربات أو ردها؛ لأن الانحراف عن الإخلاص فيها يعني الرياء، والطلب من غيره سبحانه المنافع والجوائز عليها، سواء أكانت مادية أم معنوية، بالثناء وكسب السمعة والإطراء، فحال المتقدم بالقربة لنيل منافع الخلق، يقود للتلبس بشرك حذر الله منه، حيث قال سبحانه: {...فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة:22)
وفي الحديث الصحيح عن عبد اللَّهِ، قال: سَأَلْتُ النبي، صلى الله عليه وسلم: (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قال: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ، قلت: إِنَّ ذلك لَعَظِيمٌ، قلت ثُمَّ أَيُّ: قال وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قلت: ثُمَّ أَيُّ: قال أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ) (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة، باب قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} البقرة: 22)
فالرسول، صلى الله عليه وسلم، أيقظ الأذهان، لما ضرب مثالاً عملياً للإخلاص بالهجرة، فالذي يهاجر إلى الله بنية صادقة، وإخلاص ناصع، يختلف حاله وجزاؤه، عن الذي يقوم بفعل الهجرة نفسه، ولكن لأهداف دنيوية أخرى، وشتان بين الطرفين، والجزاءين، فمن يهاجر لله، فهو في ذمته سبحانه ورعايته، وينتظره انتصار رباني له في الدنيا، وقبول رحب في الآخرة، بخلاف الآخر.
وبهذه الوقفة نختم في هذه المرحلة الحديث عن ضرب المثل للإخلاص بالهجرة، حسب ما جاء في آيات القرآن الكريم، والمروي عن نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
20 صفر 1444هـ