.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يضرب مثلاً للإخلاص بالهجرة - الحلقة السابعة

==========================================================

يقول الله تعالى في محكم التنزيل الذي نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين والمرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (الحج:58-59)
ضمن مؤكدات ضرب المثل للإخلاص بالهجرة، تطرقت الحلقة السابقة إلى موالاة المهاجرين في سبيل الله، والأنصارَ بعْضُهُمْ بَعْضاً، حيث بينت الآية الثانية والسبعون من سورة الأنفال، بأن الهجرة المعتبرة شرعاً هي التي تكون في سبيل الله، والمراد بالولاية هنا القرب، بحيث يكون بعضهم معظماً للبعض، مهتماً بشأنه، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته، وأن يكونوا يداً واحدة على الأعداء، وأن يكون حب كل واحد لغيره جارياً مجرى حبه لنفسه، ولأهمية الهجرة في سبيل الله، قيد الله بها قبول اتخاذ أولياء، وتنبع أهمية هذا القيد الإلهي من كون الهجرة في سبيل الله تعني نصرة الإسلام، ومعاضدة المسلمين بعضهم بعضاً، فهم أولياء متناصرون، كالجسد الواحد، من هنا كان النهي عن موالاة المنافقين حتى يهاجروا في سبيل الله.

وعد المهاجرين في سبيل الله بالرزق الحسن
تتضمن الآية الكريمة الثامنة والخمسون من سورة الحج، والمثبت نصها أعلاه، وعداً إلهياً صريحاً للمهاجرين في سبيله سبحانه، بأن الله سيرزقهم رزقاً حسناً إن ماتوا أو قتلوا، فالله ذكر في هذه الآية أن المؤمنين الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا بأن قتلهم الكفار في الجهاد؛ لأن هذا هو الأغلب في قتل من قتل منهم، أو ماتوا على فرشهم حتف أنفهم في غير جهاد، أنه تعالى أقسم ليرزقهم رزقاً حسناً، وأنه خير الرازقين. (أضواء البيان، 5/292)
وهذا الوعد يحمل في طياته طمأنة لهم على ما سيجدون من مصير خلال هجرتهم، وما كان لهم أن ينالوا هذا الجزاء العظيم لولا إخلاصهم لله في هجرتهم، فالمهاجر الموعود بالرزق الحسن في ضوء هذه الآية الكريمة، خرج مهاجراً في سبيل الله، فكانت هجرته ابتغاء مرضاة الله، والرازي يبين أن هناك اختلافاً فيمن أريد بذلك، فقال بعضهم: من هاجر إلى المدينة طالباً لنصرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتقرباً إلى الله تعالى، وقال آخرون: بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، أو في سراياه لنصرة الدين، ولذلك ذكر القتل بعده، ومنهم من حمله على الأمرين.
واختلفوا من وجه آخر، فقال قوم: المراد قوم مخصوصون، روى مجاهد أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة، فتبعهم المشركون فقاتلوهم، وظاهر الكلام للعموم، ثم إنه سبحانه وتعالى وصفهم برزقهم ومسكنهم، أما الرزق، فقوله تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرازِقِينَ} ولا شبهة في أن الرزق الحسن هو نعيم الجنة، وقال الأصم: إنه العلم والفهم، كقول شعيب، عليه السلام: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} (هود: 88)، فهذا في الدنيا، وفي الآخرة الجنة، وقال الكلبي: رزقاً حسناً حلالاً، وهو الغنيمة، وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت، وبعدهما لا يكون إلا نعيم الجنة.
ويبين الرازي أن فضل المهاجر في سبيل الله على سائر المؤمنين أن ثوابهم أعظم، وقد قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (الحديد :10) فمعلوم أن من هاجر مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفارق دياره وأهله لتقويته، ونصرة دينه مع شدة قوة الكفار، وظهور صولتهم، صار فعله كالسبب لقوة الدين، وعلى هذا الوجه عظم محل الأنصار، حتى صار ذكرهم والثناء عليهم تالياً لذكر المهاجرين، لما آووه ونصروه. (التفسير الكبير، 23/50-51)

إدخال المهاجرين في سبيل الله مدخلاً يرضونه
بعد أن وعد الله المهاجرين في سبيله بالرزق الحسن، تابع سبحانه الحديث عن جزائهم في الآية التالية، فقال عز وجل: {لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ}، جاء في تفسير أبي السعود أن هذه العبارة بدل من قوله تعالى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ} أو استئناف مقرر لمضمونه، و{مُّدْخَلاً} إما اسم مكان أريد به الجنة، فهو مفعول ثان للإدخال، أو مصدر ميمي أكد به فعله، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: إنما قيل: {يَرْضَوْنَهُ} لما أنهم يرون فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيرضونه. (تفسير أبي السعود، 6/116)
أما السعدي فقال في تفسير قوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} إما ما يفتح الله عليهم من البلدان، خصوصاً فتح مكة المشرفة، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور، وإما المراد به رزق الآخرة، وأن ذلك دخول الجنة، فتكون الآية جمعت بين الرزقين؛ رزق الدنيا ورزق الآخرة، واللفظ صالح لذلك كله، والمعنى صحيح، فلا مانع من إرادة الجميع. (تفسير السعدي، 1/543)
فالمهاجرون في سبيل الله، وعدهم ربهم بالمثوبة الحسنة، التي منها النصر والعز والتمكين في الدنيا، والجنة بما فيها من نعيم مقيم، تلذ به أعينهم، وتسر نفوسهم، فطوبى لهم.
فهذه وقفة أخرى في رحاب ذكر المهاجرين في سبيل الله، وحسن مثوبتهم، عسى أن ييسر الله التمكن من ختم الوقوف عند ما تيسر من جوانب ضرب المثل للإخلاص بالهجرة، حسب ما جاء في آيات القرآن الكريم، والمروي عن نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
13 صفر 1444هـ

تاريخ النشر 2022-09-09
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس