.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يعالج أنانية النفوس

==========================================================

عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه
يحرص الإسلام على تهذيب النفوس، فيحثها على التزام الخير، وينهاها عن الشر وآفات السلوك، ومن ذلك تنبيهها إلى لزوم حب الخير للناس كما تحبه لذواتها.
أهمية هذا الحديث الشريف
لهذا الحديث الشريف أهمية خاصة في الإسلام، ومما قيل فيه إنه أحد أحاديث أربعة تتفرع عنها جماع الخير، كما يقول ابن أبي زيد(*): جماع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث: 1- حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه 2 - وحديث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت 3- وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه 4- وقوله للذي اختصر له وصية لا تغضب. (شرح السيوطي على مسلم، 1 /61)
ربط السلوك بالعقيدة
أعلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، من شأن حب الخير للناس مثلما يحبه المرء لنفسه، فربط هذا السلوك والمنهج بالعقيدة، فلا إيمان لمن لم يحب الخير للناس كما يحب لنفسه، حسب ما هو مبين في حديث أنس، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، وفي رواية جاء: "حَتّى يُحبَّ لِجاره" فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ - أَوْ قَالَ لِجَارِهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير)
يذكر النووي أن معناه لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل وإن لم يكن بهذه الصفة، والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات.
ويذكر كذلك عن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، قوله: إن هذا قد يعد من الصعب الممتنع، وليس كذلك إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام مثل ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها؛ بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئاً من النعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل. (صحيح مسلم بشرح النووي، 2 /16-17)
ويبين السندي أن المراد من الحب للأخ كما يحب المرء لنفسه هنا لعله ترك الحسد والعداوة، وحصول كمال المودة، حتى يقرب أن ينزل أخاه منزلة نفسه في الخيرات بطريق الكناية، أو المراد أن يحب ذلك في الأعم الأغلب، ولا يلزم في كل شيء؛ سيما إذا لم يكن لذلك الشيء إلا فرد واحد، كالوسيلة والمقام المحمود، فإنه لا يمكن الاشتراك فيه حتى يحبه لغيره، وبهذا يندفع الإشكال بسؤال سيدنا سليمان تخصيص الملك بقوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (ص:35)، وبما حكاه الله عن عباده الصالحين من قولهم، واجعلنا للمتقين إماماً، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74)، فإنه ظاهر في الخصوص، والعموم في الإمامة يرفع الإمامة من أصلها كما لا يخفى، وبتخصيص النبي، صلى الله عليه وسلم، سؤال الوسيلة بنفسه، وأمره الأمة بذلك السؤال، والله تعالى أعلم.
ثم معنى هذه الغاية، (حتى يحب) هاهنا وفي أمثاله هو أنه لا يكمل الإيمان دون حصول هذه الغاية، لا أن حصول هذه الغاية كافية في كمال الإيمان، وإن لم يكن هناك شيء آخر. (حاشية السندي على صحيح البخاري، 1 /14)
ويقول الكرماني: إن من الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه؛ أي من الشر ولم يذكره، لأن حب الشيء مستلزم بغض نقيضه، فيدخل تحت ذلك، وإما لأن الشخص لا يبغض خيراً لنفسه، فلا يحتاج إلى ذكره، وليس المراد بالأخ في هذا الحديث الأخ في النسب فقط، بل المراد كل أخ في الإسلام، رجلاً كان أم امرأة، تعميماً للحكم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} (الحجرات:10)، شملت الآية كل أخ، سواء أكان في النسب أم في الله تعالى، أم في الإسلام. (شرح صحيح البخاري لشمس الدين السفيري، 20 /6)
التعصب للذات يقود صاحبها للويلات
سبب رئيس للشيطنة التي لحقت بإبليس عصيانه أمر الله بالسجود لآدم، عليه السلام، وبرر إبليس هذا العصيان بسبب يعود للتعصب للذات، فقد رأى نفسه متميزاً عن آدم بأصل الخلقة، كون آدم خلق من طين وهو خلق من نار، وقد أفصح عن هذا التبرير خلال إجابته الله رب العالمين لما سأله عن سبب عصيانه، وفي سورة (ص) بيان لهذا، حيث يقول جل شأنه: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (ص: 75-78)
وتكرر ذكر تبرير إبليس هذا في الآية 12 من سورة الأعراف.
وقد جلب إبليس لنفسه الويلات جراء منهجه الاستعلائي الممزوج بالأنانية والحب المفرط للذات، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} فاستحق إبليس بذلك الطرد من الجنة ومن رحمة الله تعالى.
وابن آدم الذي قتل أخاه دفعه لاقتراف هذه الجريمة النكراء عامل نفسي امتزج فيه حب الذات، وكراهة الخير للآخرين، وإنكار أن يقدم عليه في الفضل أخوه، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة:27)
فقتل ابن آدم أخاه في جريمة سطرت وقائعها وبشاعتها في التاريخ، وأنكرها رب العالمين، وقرر تبعاً لها تحميل الذي يقتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض وزراً يعدل في الفظاعة والإثم جريمة الذي يقتل الناس جميعاً.
وأشار القرآن الكريم إلى واقعة برزت فيها الأنانية كسبب للاستحواذ الظالم، فقال عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ* قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (ص:21-24)
الأنانية تتسبب بكثير من الشرور
لو نظر الناس في واقعهم وبما يدور حولهم من مشكلات واقتتال ونزاع، لوجدوا أن الأنانية والانتصار الأعمى للذات والانتماء العائلي أو الحزبي والقومي والجنسي وراء كثير مما يدور ويقع من مآسٍ وفظائع وتشرذم وحروب، إذ لو تواضع الناس بعضهم لبعض، وأحبوا الخير للآخرين كما يحبونه لأنفسهم والمقربين منهم، لتقلصت الكراهية والبغضاء بينهم، ولتعاونوا على البر والتقوى فيما بينهم، ولوجدوا لكثير من المشكلات التي تقع بينهم حلولاً منطقية منصفة، ولهدوا إلى كلمة سواء دون سفك دماء بعضهم بعضاً، ودون تربص بعضهم لبعض بالشر والعدوان.
ومن سلبيات الأنانية أنها تقود إلى الاستعلاء والاستكبار الآثمين، وتفضي للظلم الذي ينتج عن الاستحواذ بالخير، وحجبه عن الآخرين، ومن الصور المقيتة لهذه السلبيات تقريب الأحباب والأقارب والأتباع على حساب أصحاب الحقوق من الناس، بخلاف منهج الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي ساوى بين ابنته وغيرها في المحاسبة والسؤال والعقاب، فقَالَ: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا". (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار)
الذين يؤثرون على أنفسهم
يقابل الأنانيين في الجانب الآخر الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم حاجة لما يقدمون للآخرين، وضرب الله لهذه الشريحة المجتمعية مثلاً بالأنصار، رضي الله عنهم، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9)
يبين الشنقيطي أن الْإِيثَار عَلَى النَّفْسِ: هو تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَيْهَا مَعَ الْحَاجَةِ، وَالْخَصَاصَةُ: الَّتِي تَخْتَلُّ بِهَا الْحَالُ، وَأَصْلُهَا مِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ فِي الْأَمْرِ، فَالْخَصَاصَةُ الِانْفِرَادُ بِالْحَاجَةِ؛ أَيْ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 8 /44)
ويبين ابن عاشور أن تذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس، فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. والشّح بضم الشين وكسرها: غريزة في النفس، وهو قريب من معنى البخل. وقال الطيبي: الفرق بين الشح والبخل عسير جداً. (التحرير والتنوير، 28 /84)
هدانا الله لنحب للناس من الخير مثلما نحب لأنفسنا، ونرجو أن يصرف الله عنهم الشر كما نرجو مثل ذلك لأنفسنا والمقربين منا، عملاً بمنهج رسولنا الكريم محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الهامش
*أبو محمد عبد الله بن زيد، إمام المالكية بالمغرب في زمنه. (صحيح مسلم بشرح النووي، 1/128)
11 ذو القعدة 1446هـ

تاريخ النشر 2025-05-09
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس