.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يعجب لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء الحلقة الثالثة

==========================================================

عن عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا).(صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض)
ضمن الحديث عن أبعاد عجب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء، وقفت الحلقة السابقة عند محاور عقائدية ذات صلة، ومنها أن لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وقد جاءت هذه المقولة الإيمانية في حديث لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعناها: أن له سبحانه الْخلق كُله، وَبِيَدِهِ الْأَمر كُله، وكل شَيْء عِنْده بِأَجل مُسَمّى.
وقيل إنه قدم ذكر الْأَخْذ على الْإِعْطَاء، وَإِن كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْوَاقِع، لما يَقْتَضِيهِ الْمقَام، وَالْمعْنَى أَن الَّذِي أَرَادَ الله أَن يَأْخُذهُ هُوَ الَّذِي كَانَ أعطَاهُ، فَإِن أَخذه أَخذ مَا هُوَ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي الْجزع، لِأَن مستودع الْأَمَانَة لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يجزع إِذا استعيدت مِنْهُ.
وقَوْله: (وكل عِنْده بِأَجل مُسَمّى) أَي: كل وَاحِد من الْأَخْذ والإعطاء عِنْد الله مُقَدّر بِأَجل مُسَمّى مَعْلُوم، وَالْأَجَل يُطلق على الْحَد الْأَخير، وعَلى مَجْمُوع الْعُمر، وَمعنى (عِنْده) أي فِي علمه وإحاطته.
والرسول، صلى الله عليه وسلم، في رسالته التي بعثها لابنته التي كان ابنها في حالة مرض شديد، ربط ما يجري لابنها بقدر الله، وحثها على الصبر والاحتساب، قائلاً: (فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ).
ويعني هذا الإرشاد النبوي أن ما يحدث في مجريات الحياة، هو مقدر من الله، ينبغي التعامل معه وفق هذا الفهم، وذلك بالشكر إن كان نعمة، والصبر إن كان ألماً وفقداناً، واحتساب المثوبة على الصبر معلوم في ضوء العقيدة والإيمان، أن له مكافأة عظيمة من الله ومثوبة، والصبر على المصيبة احتساباً للأجر والثواب، لا تناقضه الردود الفطرية الطبيعية العفوية التي لا يناقض التعبير عنها أحكام الشرع، فالبكاء العاري عن النوح لا يؤاخذ به الباكي، ولا الميت.
فهذا دليل آخر صحيح يرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمن وهو يواجه الصعاب والابتلاءات في نفسه وأحبابه وواقعه، فهو المسلم لله، الموقن بقضائه وقدره، الصابر المحتسب، الموعود بخير الجزاء والرضا، الذي حاله عجب؛ لحسن سلوكه في السراء والضراء.
مع التنبيه إلى أن الجزع والسخط جراء الإصابة بالجراح والمصائب، لا يرد من وقع المصيبة وتداعياتها، ولا يبدل من مستوى ألمها قيد أنملة، سوى فقد الأجر الموعود للصابرين المحتسبين.
صبر المؤمن على المصائب
على خطى التشجيع على الصبر عند مواجهة الخطوب والمصائب، يبين الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن هذا الصبر يفضي لتكفير ذنوب الصابر، فالإنسان الذي بطبيعته معرض لا محالة لارتكاب الذنوب والخطايا بصفته قابلاً لذلك، وعند صبره على المصيبة التي تنتابه فإنه يجازى بالحط من خطاياه وذنوبه، مهما كان نوع المصيبة وحجمها، وضرب الرسول، صلى الله عليه وسلم، مثلاً للمصيبة الصغيرة التي تمحى السيئات بالصبر عليها بالشوكة التي يشاكها المسلم، فالمصيبة هنا بسيطة، ورغم ذلك فإن الصابر عليها يكافأ بمحو الذنوب، فكيف بالصابر على المصائب الأعظم، التي تصيب الأجساد والأموال والأحباب، ومن الأدلة المثبتة لمحو الذنوب بالصبر على أنواع من هذه المصائب قول النبي، صلى الله عليه وسلم، للنساء لما وعظهن: (مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً، إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ).(صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب تعليم النبي، صلى الله عليه وسلم، أمته من الرجال والنساء...)
وبشكل عام؛ فالله وعد الصابرين المحتسبين المسترجعين عندما تصيبهم المصيبة بالثواب والاهتداء، والمسلم الذي يوقن بصدق هذه الوعود الحقة وأمثالها تتعزز مواقفه الإيجابية التي ترتقي بحاله كله ليكون خيراً، يصبر على الضراء، ويشكر على السراء، فنعم عبد الله هو، ونعم الحال حاله.
وشهد الله في محكم التنزيل للصابرين في البأساء والضراء وحين البأس بالصدق والتقوى، فقال جل شأنه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177)
يذكر الرازي عن ابْن عَبَّاسٍ، أن معنى {البأساء} هنا الْفَقْر، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْبُؤْسِ، وَ{الضَّرَّاءِ} يُرِيدُ بِهِ الْمَرَضَ، وَ{حِينَ الْبَأْسِ} هو الْقِتَال فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْجِهَاد، وَمَعْنَى الْبَأْسِ فِي اللُّغَةِ الشِّدَّةُ، يُقَالُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ فِي هَذَا، أَيْ لَا شِدَّةَ، {بِعَذابٍ بَئِيسٍ}(الْأَعْرَافِ:165) شَدِيدٍ، ثُمَّ تُسَمَّى الْحَرْبُ بَأْسًا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ، وَالْعَذَابُ يُسَمَّى بَأْسًا؛ لِشِدَّتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا}(غَافِرٍ:84) {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا}(الْأَنْبِيَاءِ:12){فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ}(غَافِرٍ:29).(تفسير الرازي:5/211)
والمقصود بالَّذِينَ صَدَقُوا يعني صدقت نياتهم، فاستقامت قلوبهم بأعمالهم. والْمُتَّقُونَ، هم المطيعون لله تعالى.(تفسير السمرقندي:1/116)
إنفاق المؤمن في السراء والضراء
الموقف من السراء والضراء يستند إلى مستوى إيمان المتعرض لهما، والأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة التي تعرضت لذكر المواقف منهما والتوجيهات الشرعية بشأنهما كثيرة، فبالنسبة إلى الإنفاق أثنى الله على المؤمنين لأنهم ينفقون في السراء والضراء، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134) وفسر المراد بالإنفاق في السراء والضراء أي في حالي اليسر والعسر.(تفسير السمعاني:1/358)
ويذكر الرازي ثلاثة وجوه في تفسير المراد بالمنفقين فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وهي:
- الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالْيُسْرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعُسْرِ لَا يَتْرُكُونَ الْإِنْفَاقَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّرَّاءُ هُوَ الْغِنَى، وَالضَّرَّاءُ هُوَ الْفَقْرُ.
- وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ سَوَاءٌ كَانُوا فِي سُرُورٍ أَوْ فِي حُزْنٍ، أَوْ فِي عُسْرٍ أَوْ فِي يُسْرٍ، فَإِنَّهُمْ لَا يَدَعُونَ الْإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ.
- والثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ وَالْإِنْفَاقَ سَوَاءٌ سَرَّهُمْ بِأَنْ كَانَ عَلَى وَفْقِ طَبْعِهِمْ، أَوْ سَاءَهُمْ بِأَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ.
وَإِنَّمَا افْتَتَحَ اللَّهُ بِذِكْرِ الْإِنْفَاقِ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ شَاقَّةٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَشْرَفَ الطَّاعَاتِ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ وَمُوَاسَاةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ.(التفسير الكبير للرازي:9 /366)
فالمؤمن في السراء والضراء ينفق المال ويبذله في سبيل الله، وقد أثنى الله على المنفقين ولو كانت بهم حاجة ماسة لما ينفقون، فقال عز وجل: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر:9) وهذا من معززات العجب من أمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء.
ومن حرص المؤمن على نيل البر أنه ينفق مما يحب، عملاً بفحوى قوله تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }(آل عمران:92)
ومن تطبيقات الصحابة، رضوان الله عليهم، العملية لمضمون هذا التوجيه الرباني، ما رواه أَنَس بْن مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ).(صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب)
فالمؤمن الصابر المحتسب، المنفق في السراء والضراء، يعبر بهذا عن جانب حسن فاضل للسلوك الذي يتميز فيه عمن سواه، وينال بموجبه استحقاق عجب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأمره.
آملين الانتفاع من هذا التذكير كذلك، لبناء النفوس على أساس من عقيدة ثابتة راسخة، تثمر سلوكاً نقياً طاهراً مستقيماً عند مواجهة الخطوب أو المسرات، يترجم بحسن الأداء والاستقامة على أمر الله وشرعه، ونسأله سبحانه أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من مناحي العجب لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء، حسب ما روي عن رسولنا وخاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
7 رجب 1445هـ

تاريخ النشر 2024-01-19
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس