.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يعجب لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء - الحلقة الأولى

==========================================================
عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)(صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير)
يتعرض الناس خلال حياتهم الدنيا لظروف مختلفة، منها التي يسعدون فيها، وفي أخرى يتألمون، وأحياناً تعصف بهم الشدائد لدرجة يزلزلون فيها زلزالاً، ووصف عز وجل حال المسلمين حين واجهوا ظرفاً من هذا النوع المزلزل، فيقول تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}(الأحزاب:10) ومعلوم أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن حال المسلمين والرسول، صلى الله عليه وسلم، لما تحزب الأحزاب ضدهم، واجتاحوهم من كل حدب وصوب في غزوة الخندق التي يُطلق عليها أيضاً غزوة الأحزاب، وهذه الآية نزلت في سورة سميت بالاسم نفسه؛ الأحزاب.
وتقلب أحوال الناس بين ظروف الرخاء والدعة وبين الشدة والقسوة، غالباً ما يكون عاماً، فالأمر يشمل أصناف الناس كافة، والله تعالى يشير إلى هذه القاعدة المرساة في الخلق، فيقول سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(آل عمران:140)
ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال:
دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ____وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي____فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ
وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي____وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ
وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ____وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ
إِذا ما كُنتَ ذا قَلبٍ قَنوعٍ____فَأَنتَ وَمالِكُ الدُنيا سَواءُ
وَمَن نَزَلَت بِساحَتِهِ المَنايا____فَلا أَرضٌ تَقيهِ وَلا سَماءُ
وَأَرضُ اللَهِ واسِعَةٌ وَلَكِن____إِذا نَزَلَ القَضا ضاقَ الفَضاءُ
دَعِ الأَيّامَ تَغدِرُ كُلَّ حِينٍ____فَما يُغني عَنِ المَوتِ الدَواءُ
وحديث صهيب، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، يَعجَبُ فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، من أمر المؤمن لسلوكه في الظروف والأحوال التي يعيشها وتمر به، فهو عند الرخاء والراحة والمسرة يشكر المنعم سبحانه، وعند الشدائد والمعاناة يصبر، وبالتالي يحصل في الأحوال كلها على المحامد، ويجني المثوبة، وينال الرضا من الله، بخلاف الذي يتبختر في الرخاء ويتكبر، ويظن أن ما أوتيه من النعم فبمهارته وكياسته، وينسى فضل الله عليه، وعند الشدائد يضجر ويسأم، ويشكو الخالق للخلق- والعياذ بالله-.
سنة الابتلاء بالسراء والضراء
الظروف العصيبة التي نمر بها، ينظر إليها المؤمن استناداً إلى منطلقاته الإيمانية وتربيته العقائدية، نظرة مميزة، فلا ينتابه إحباط، ولا يلقى الفظائع بجزع، على الرغم من شدة المحن، وضراوة الابتلاءات، فهو يوقن أن سلعة الله الجنة غالية، يمنحها الله للذين يتخطون امتحانات الابتلاءات بنجاح، وهو القائل سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(البقرة:214) وسنة الابتلاء أجراها الله على الأمم، بهدف الكشف عن مستوى إيمانهم وخضوعهم لله، وخشوعهم إليه سبحانه، مصداقاً لقوله جل شأنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}(الأنعام:42)
والابتلاءات صنوف كثيرة، وأنواع شتى، فمنها ما يكون في الأبدان التي تتعرض للأمراض، وبتر الأعضاء، وموت الأجساد، ومنها ما يكون في الأحوال، كالفقر ونقص الأموال، والإصابة بالأذى النفسي والبدني والاضطهاد والقهر، والمؤمن يوقن أن ما يأتيه من خير وآلاء فهو من الله، وما يصيبه من أذى وضيق لا يملك رفعه عنه إلا الله، الذي يقول في كتابه العزيز: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ* ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}(النحل:53-54)
وما يسري على الابتلاء بالمصيبة يسري عند المؤمن كذلك على الابتلاء بالخيرات، فيقابل الصبر هناك بالشكر، فهو يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويؤمن أن الناس لو اجتمعوا على نفعه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمع أبناء المعمورة بأسرها على إيقاع ضرر به لم يقدره الله لفشلوا في إيقاعه، وقصة صيرورة النار برداً وسلاماً على إبراهيم، يستحضرها المؤمن في أحواله كلها، وبخاصة التي تشتد فيها الخطوب والصعاب، وحين يقرأ آيات التنزيل المعبرة عن أمر الله بهذه الصيرورة، حيث يقول عز وجل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ* قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:68-71)
فهذا المشهد المفعم بالإيمان من قصة إبراهيم، عليه السلام، يتعلم منه المؤمن درساً مهماً في اليقين بنصر الله وعونه وحفظه، فهو سبحانه مالك الملك، وإذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وهو ذو القوة المتين، وذو البطش الشديد، لا إله إلا هو سبحانه، يفعل ما يريد، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء مهما تعاظم، وهو القائل جل شأنه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(آل عمران:160)
السلوك الحسن في السراء والضراء
يتعرض المؤمنون كغيرهم من الناس لابتلاءات في أنفسهم وأموالهم وواقع عيشهم، والتي تفضي أحياناً للنقص في الأموال والأنفس والثمرات، والتعرض للخوف والجوع، حسب ما بينه سبحانه في قوله الكريم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(البقرة:155) والمؤمن الذي يتعرض لصنوف هذا الابتلاء يسترشد من الآية الكريمة نفسها درب النجاة من ويلاته، فيتحلى بالصبر في مواجهة الخطوب، ليصل به الحال إلى المصابرة التي أمره الله بها في خاتمة آل عمران، حيث قال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران:200) فهذه الآية الكريمة تشير إلى بعض مناهج المدرسة الإيمانية التي ينهل منها المؤمن عقيدته ومناهجه وطريق هدايته، فهو الصابر المصابر المرابط التقي، الموعود بالبشرى من الله، والفلاح والنصر وحسن الجزاء إن أحسن الامتثال لشرع الله، لأنه يترجم ما يتلقاه من هذه المدرسة إلى سلوك إيماني يتوافق معه عند تلقي الصدمات والمحن والابتلاءات، فيحتسب عند المصيبة ويسترجع، أملاً في أن يكون من المهتدين، الذين قال فيهم سبحانه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة:156-157)
فالسلوك الحسن للمؤمن الذي عجب له النبي، صلى الله عليه وسلم، يتمثل بالشكر حال السراء، والصبر حال الضراء، منطلقاً بذلك من خلفية إيمانية، توحي بأن الخير والشر بيد الله، ولا مفر من الله إلا إليه، وأن الجزاء منه سبحانه، الذي لا تضيع منه مثقال ذرة، وكل شيء عنده بمقدار، وتتم الأمور بما يقدره الله، والمؤمنون يتلقون دروساً من الآيات القرآنية التي نزلت تعقب على أفعال الخلق وتصوراتهم، كالآية الكريمة التي فندت منطلقات خاطئة لمهزوزي التصور العقائدي، ووجهت إلى سلامة التصور ونقاء المنهج، فقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَالِ هَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}(النساء:78)
آملين الانتفاع من هذا التذكير، لبناء النفوس على أساس عقيدة ثابتة راسخة، تثمر سلوكاً نقياً طاهراً مستقيماً عند مواجهة الخطوب أو المسرات، بما يمثل حسن الأداء والاستقامة على أمر الله وشرعه، ونسأله سبحانه أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من مناحي العجب لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء، حسب ما روي عن رسولنا وخاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
23 جمادى الآخرة 1445هـ

تاريخ النشر 2024-01-05
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس