.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يعجب لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء - الحلقة الرابعة والأخيرة

==========================================================

يثني جل في علاه على سلوك المؤمنين الحسن في السراء والضراء، فيقول سبحانه: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ}(المعارج:19-22)
تواصلاً مع الحديث عن أبعاد عجب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء، وقفت الحلقة السابقة عند بيان أجر صبر المؤمن على المصائب، في إطار التنويه بخطى التشجيع على الصبر عند مواجهة الخطوب، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، بين أن هذا الصبر يفضي لتكفير ذنوب الصابر، وضرب الرسول، صلى الله عليه وسلم، مثلاً للمصيبة الصغيرة التي تمحى السيئات بالصبر عليها بالشوكة التي يشاكها المسلم، فالمصيبة هنا بسيطة، وعلى الرغم من ذلك فالصابر عليها يكافأ بمحو الذنوب، فكيف بالصابر على المصائب الأعظم، التي تصيب الأجساد والأموال والأحباب، ومن الأدلة المثبتة لمحو الذنوب بالصبر على أنواع من هذه المصائب بيان أن النار تحجب عن الأم التي تقدم بعضاً من أبنائها في سبيل الله، وشهد الله في محكم التنزيل للصابرين في البأساء والضراء وحين البأس بالصدق والتقوى، ومن جانب آخر؛ فإن الله أثنى على المنفقين أموالهم في السراء والضراء، فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالْيُسْرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعُسْرِ، وبخاصة المنفقين ولو كانت بهم حاجة ماسة لما ينفقون، ومن حرص المؤمن على نيل البر أنه ينفق مما يحب، وهذا من معززات العجب من أمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء، فالمؤمن الصابر المحتسب، المنفق في السراء والضراء، يعبر بهذا عن جانب حسن فاضل للسلوك الذي يتميز فيه عمن سواه، وينال بموجبه استحقاق عجب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأمره.
المؤمن يتميز بمنهجه السلوكي في السراء والضراء
الآيات القرآنية الكريمة المثبت نصها أعلاه من سورة المعارج، تشير إلى تميز منهج المؤمن عند تعرضه لأحوال الخير والشر، فالإنسان خلق هلوعاً، يجزع عند التعرض للشر، ويمنع العطاء عند حيازة الخير، إلا المصلين، فإن منهجهم يختلف، فهم الشاكرون في السراء، الصابرون في الضراء، وهذا يدل على أهمية المدرسة الإيمانية التي يستقي منها المؤمن منهجه السلوكي، ويتشرب منها تربيته وقيمه وأخلاقه، والآيات القرآنية الكريمة صريحة الدلالة على إبراز هذا التميز، فالإنسان خلق ضجورًا، شحيحًا، جزوعًا، والهلوع من الهلع، وهو: شدة الحرص، وقلة الصبر، والمفسرون يقولون: تفسير الهلوع: ما بعده، وهو قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}(المعارج: 20-21)؛ فالإنسان بشكل عام إذا أصابه الفقر لا يصبر، ولا يحتسب، وإذا أصابه المال منعه من حق الله، ثم استثنى الله المؤمنين الصالحين المحافظين على أداء الصلاة تعبداً لله. (تفسير الوسيط للواحدي:4/353، بتصرف)
أفعال الخير والشر التي يحاسب عليها الذي يهلع أو يجزع
يذكر الرازي عن الْقَاضِي أن قَوْلهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً} نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ}(الْأَنْبِيَاءِ:37) وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَذُمُّ فِعْلَهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْمَذْمُومَةِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْخَصْلَةُ ضَرُورِيَّةً حَاصِلَةً بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا قَدَرُوا عَلَى تَرْكِهَا.
ويبين أَنَّ الْهَلَعَ لَفْظٌ وَاقِعٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْحَالَةُ النَّفْسَانِيَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَقْدُمُ الْإِنْسَانُ عَلَى إِظْهَارِ الْجَزَعِ وَالتَّضَرُّعِ.
وَالثَّانِي: تِلْكَ الْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الدَّالَّةُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ النَّفْسَانِيَّةِ، أَمَّا تِلْكَ الْحَالَةُ النَّفْسَانِيَّةُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تَحْدُثُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ مَنْ خُلِقَتْ نَفْسُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ خُلِقَ شُجَاعًا بَطَلًا لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ تِلْكَ الْحَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ، بَلِ الْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ يُمْكِنُهُ تَرْكُهَا وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا، فَهِيَ أُمُورٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، أَمَّا الْحَالَةُ النَّفْسَانِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْهَلَعُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ على سبيل الاضطرار.
والْمُرَادُ مِنَ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ في قوله تعالى: {إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} الْفَقْرُ وَالْغِنَى، أَوِ الْمَرَضُ وَالصِّحَّةُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا صَارَ فَقِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَخَذَ فِي الْجَزَعِ وَالشِّكَايَةِ، وَإِذَا صَارَ غَنِيًّا أَوْ صَحِيحًا أَخَذَ فِي مَنْعِ الْمَعْرُوفِ، وَشَحَّ بِمَالِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى النَّاسِ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَشْغُولًا بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا وَقَعَ فِي مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ وَعَلِمَ أَنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ رَاضِيًا بِهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَإِذَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصِّحَّةَ صَرَفَهُمَا إِلَى طَلَبِ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ، واسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمَذْمُومَةِ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِثَمَانِيَةِ أشياء، بينتها الآيات الكريمة التالية من سورة المعارج.(التفسير الكبير للرازي:30/644، بتصرف)

ويبدو أن معنى الخير والشر هنا لا ينحصر بالفقر والغنى، والصحة والمرض، فلفظاهما عامان، يندرج ضمنهما -والله تعالى أعلم- كل ما يمكن من أنواع الخير والشر وصورهما، ويؤكد هذا المنحى تفاصيل صفات المصلين الذين استثنوا من التصرف بالهلع في حال الشر، والمنع عند الإصابة بالخير، فصفاتهم التي ذكرتها الآية الكريمة التالية متنوعة، تشمل مناحي كثيرة، فهي صفات عقائدية وتعبدية وجنسية واقتصادية وأخلاقية وقضائية، وفيها يقول عز وجل: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ* وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ* وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ* وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ* إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ}.(المعارج:19-35)
خطورة الانحراف عن الجادة في السراء والضراء
مثلما يمدح المؤمن لحاله السوي في السراء والضراء، كونه يشكر إن أصابه خير، ويصبر إن أصابه سوء، فإن من الخطورة الانحراف عن هذه الجادة، والتحول إلى حال المنع في السراء، والجزع في الضراء، حتى إن بعض الناس يلجأون إلى الله متضرعين في الشدة، ولما يكشفها الله عنهم يتغافلون عن شكر هذه النعمة، فيجحدون وينكرون ويبطرون، وعن حال هؤلاء يقول عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (يونس:12)
جاء في تفسير السمعاني: أن الضر في قَوْله تَعَالَى {وَإِذا مس الْإِنْسَان الضّر} هو الْمَكْرُوه.
وفي قوله تعالى: {دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا يحْتَمل مَعْنيين:
أَحدهمَا: إِذا مس الْإِنْسَان الضّر لجنبه أَو قَاعِداً أَو قَائِماً دَعَانَا.
وَالْآخر: يحْتَمل إِذا مس الْإِنْسَان الضّر دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِداً أَو قَائِماً، يَعْنِي: على هَذِه الْأَحْوَال كلهَا.
وفي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا كشفنا عَنهُ ضره مر} مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: مر طاغياً كَمَا كَانَ من قبل، وَالْآخر: اسْتمرّ على مَا كَانَ من قبل.
وقَوْله تَعَالَى: {كَأَن لم يدعنا إِلَى ضرّ مَسّه} مَعْنَاهُ: كَأَن لم يطْلب منا كشف ضر مسه.(تفسير السمعاني:2/369)
ويقول صاحب تفسير القشيري: إذا امتحن العبد وأصابه الضّرّ أزعجته الحال إلى أن يروم التخلّص مما ناله، فيعلم أنّ غير الله لا ينجيه، فتحمله الضرورة على صدق الالتجاء إلى الله، فإذا كشف الله عنه ما يدعو لأجله شغلته راحة الخلاص عن تلك الحالة، وزايله ذلك الالتياع، وصار كأنه لم يكن في بلاء قط:
كأنّ الفتى لم يعر يوماً إذ اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تموّلّا
ويقال بلاء يلجئك إلى الانتصاب بين يدي معبودك أجدى لك من عطاء ينسيك ويكفيك عنه.(تفسير القشيري:2/83)
وبالنسبة إلى قوله تعالى: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يقول صاحب زاد المسير: المعنى: كما زُيّن لهذا الكافر الدعاء عند البلاء والإِعراض عند الرَّخاء، كذلك زُيّن للمسرفين، وهم المجاوزون الحدَّ في الكفر والمعصية عملهم.(زاد المسير:2/319)
فهذه مفارقات بين حال المؤمن وسواه تجاه ما ينتاب الناس من مسرات ومصائب، يبقى فيها المؤمن متميزاً بشكره وصبره، يعرف الله في الشدة والرخاء، فيشكر ويصبر، بخلاف الغافلين الذين يعرفون الله في الشدة والضنك، فيلجأون إليه سبحانه راجين أن يفرج كربهم، فإذا ما تغير حالهم إلى الدعة والفرج نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
آملين الانتفاع من هذا التذكير وما سبقه، لبناء النفوس على أساس من عقيدة ثابتة راسخة، تثمر سلوكاً نقياً طاهراً مستقيماً عند مواجهة الخطوب أو المسرات، يترجم بحسن الأداء والاستقامة على أمر الله وشرعه، وبهذا نختم الوقوف عندما ما تيسر ذكره من مناحي العجب لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء، حسب ما روي عن رسولنا، وخاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
14 رجب 1445هـ

تاريخ النشر 2024-01-26
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس