.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يعجب لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء - الحلقة الثانية

==========================================================

عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ، فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ،
وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ، - قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ - فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاء)(صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» إذا كان النوح من سنته)
أشارت الحلقة السابقة إلى سنة الابتلاء الذي يتعرض له الناس في حياتهم الدنيا، وأحوالهم فيها تتقلب بين ظروف الرخاء والدعة، وبين الشدة والقسوة، والنبي، صلى الله عليه وسلم، عجب من أمر المؤمن حيال الظروف والأحوال التي يعيشها وتمر به، فهو عند الرخاء والراحة والمسرة يشكر المنعم سبحانه، وعند الشدائد والمعاناة يصبر، وبالتالي يحصل في الأحوال كلها على المحامد، ويجني المثوبة، وينال الرضا من الله، وسنة الابتلاء أجراها الله على الأمم، للكشف عن مستوى إيمانهم وخضوعهم لله، وخشوعهم إليه سبحانه، والابتلاءات صنوف كثيرة، وأنواع شتى، والمؤمن يوقن أن ما يأتيه من خير وآلاء فهو من الله، وما يصيبه من أذى وضيق لا يملك رفعه عنه إلا الله، وما يسري على الابتلاء بالمصيبة يسري عند المؤمن كذلك على الابتلاء بالخيرات، فهو يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويؤمن أن الأمة لو اجتمعت على نفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمع أبناء المعمورة بأسرها على إيقاع ضرر به لم يقدره الله لفشلوا في إيقاعه، فالمؤمن يترجم ما يتلقاه من المدرسة الإيمانية سلوكاً إيمانياً يتوافق معه عند تلقي الصدمات والمحن والابتلاءات، فيحتسب عند المصيبة، ويسترجع، أملاً في أن يكون من المهتدين، والسلوك الحسن للمؤمن الذي عجب له النبي، صلى الله عليه وسلم، يتمثل بالشكر حال السراء، والصبر حال الضراء، منطلقاً بذلك من خلفية إيمانية، توحي بأن الخير والشر بيد الله، ولا مفر من الله إلا إليه، وأن الجزاء منه سبحانه، لا تضيع منه مثقال ذرة، وكل شيء عنده بمقدار، وتتم الأمور بما يقدره الله.
لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى
حديث أسامة بن زيد، رضي الله عنهما، المثبت نصه أعلاه، فيه مقولة إيمانية يسن قولها عند الابتلاء بمصيبة الموت، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم، أن حفيداً له في وضع مرضي صعب، بعث لابنته أم الصبي برسالة تضمنت قوله:(إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ).
يبين الإمام العيني أن قَوْله: (إِن لله مَا أَخذ، وَله مَا أعْطى) أَي: لَهُ الْخلق كُله، وَبِيَدِهِ الْأَمر كُله، وكل شَيْء عِنْده بِأَجل مُسَمّى، لِأَنَّهُ لما خلق الدواة واللوح والقلم أَمر الْقَلَم أَن يكْتب مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا معقب لحكمه.
قيل: قدم ذكر الْأَخْذ على الْإِعْطَاء، وَإِن كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْوَاقِع، لما يَقْتَضِيهِ الْمقَام، وَالْمعْنَى أَن الَّذِي أَرَادَ الله أَن يَأْخُذهُ هُوَ الَّذِي كَانَ أعطَاهُ، فَإِن أَخذه أَخذ مَا هُوَ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي الْجزع، لِأَن مستودع الْأَمَانَة لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يجزع إِذا استعيدت مِنْهُ.
وَكلمَة (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَوْصُولَة، ومفعول أَخذ وَأعْطى، مَحْذُوف؛ لِأَن الْمَوْصُول لَا بُد لَهُ من صلَة وعائد، ونكتة حذف الْمَفْعُول فيهمَا الدّلَالَة على الْعُمُوم، فَيدْخل فِيهِ أَخذ الْوَلَد وإعطاؤه وَغَيرهمَا، وَيجوز أَن تكون كلمة (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: إِن لله الْأَخْذ والإعطاء، وَهُوَ أَيْضا أَعم من إِعْطَاء الْوَلَد وَأَخذه.
وقَوْله: (وكل عِنْده بِأَجل مُسَمّى) أَي: كل وَاحِد من الْأَخْذ والإعطاء عِنْد الله مُقَدّر بِأَجل مُسَمّى، أَي: مَعْلُوم، وَالْأَجَل يُطلق على الْحَد الْأَخير، وعَلى مَجْمُوع الْعُمر، وَمعنى: عِنْده، فِي علمه وإحاطته.
ويبين الإمام العيني كذك أن ترك إجَابَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَولاً، يحْتَمل أَنه كَانَ فِي شغل فِي ذَلِك الْوَقْت، أَو كَانَ امْتِنَاعه مُبَالغَة فِي إِظْهَار التَّسْلِيم لرَبه، أَو كَانَ لبَيَان الْجَوَاز فِي أَن من دعِي لمثل ذَلِك لم تجب عَلَيْهِ الْإِجَابَة، بِخِلَاف الْوَلِيمَة مثلاً، وَأما إجَابَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد إلحاحها عَلَيْهِ، فَكَانَت دفعاً لما يَظُنّهُ بعض الجهلة أَنَّهَا نَاقِصَة الْمَكَان عِنْده، أَو أَنه لما رَآهَا عزمت عَلَيْهِ بالقسم حن عَلَيْهَا بإجابته.(عمدة القاري:8/73)
الصْبِر والاحتساب
الرسول، صلى الله عليه وسلم، في رسالته التي بعثها لابنته التي كان ابنها في حالة مرض شديد، ربط ما يجري لابنها بقدر الله، وحثها على الصبر والاحتساب، قائلاً: (فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ).
قَوْله: (فلتبصر) أَمر للْغَائِب الْمُؤَنَّث، (ولتحتسب) أَي تنوي بصبرها طلب الثَّوَاب من رَبهَا؛ ليحسب لَهَا ذَلِك من عَملهَا الصَّالح. (عمدة القاري:8/73)
وهذا الإرشاد النبوي يعني أن ما يحدث في مجريات الحياة، هو مقدر من الله، ينبغي التعامل معه وفق هذا الفهم، وذلك بالشكر إن كان نعمة، والصبر إن كان ألماً وفقداناً، واحتساب المثوبة على الصبر معلوم في ضوء العقيدة والإيمان أن له مكافأة عظيمة من الله ومثوبة، و{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر: 10)، وهذا الموقف الذي يتمثله المؤمن يتماشى تماماً مع حاله الذي عجب النبي، صلى الله عليه وسلم، منه، فهو الشاكر في السراء، والصابر في الضراء، وفي الأحوال كلها، لا يغيب عن تصوره التمثل لهذه القواعد الإيمانية، ويجني من وراء ذلك خيراً وجزاء حسناً، من رب كريم.
رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ
الصبر على المصيبة احتساباً للأجر والثواب، لا تناقضه الردود الفطرية الطبيعية العفوية التي لا يناقض التعبير عنها أحكام الشرع، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، لبى طلب ابنته التي كان ابنها في معاناة بالغة من شدة المرض، ووصل مرحلة الاحتضار، فذهب إليها بصحبة عدد من أصحابه الكرام، رضي الله عنهم، ثم رفع إليه الصبي، (وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ) أي تضطرب وتتحرك، أي: كلما صار إلى حالة لم يلبث أن ينتقل إلى أخرى؛ لقربه من الموت، (قال: حسبته أنه قال: كأنها شنّ) قربة خلقة يابسة، وجزم به في رواية حماد، ولفظه: (ونفسه تتقعقع كأنها في شن).(إرشاد الساري:2/401)
وقد اختلف في تحديد شخص الصبي المقصود هنا، وهل هو ذكر أو أنثى؟ ومن والديه؟ وهناك من قال إنه ابن لعلي وفاطمة، رضي الله عنهما؛ لأن فَاطِمَة لم تَلد من عَليّ من الذُّكُور غير ثَلَاثَة، وَلم يمت فِي عَهْدِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيره منهم.(فتح الباري:1/269)
ولما قبض الصبي، وهو حفيد النبي، صلى الله عليه وسلم، فاضت عيناه بالدمع، ولما سأله صاحبه سعد بن عبادة، عن هذا، وكأنه استغرب أن تذرف الدموع من عيني النبي، صلى الله عليه وسلم، لموت هذا الصبي، أجاب عليه الصلاة والسلام، بقوله: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) فالبكاء العاري عن النوح لا يؤاخذ به الباكي، ولا الميت. (إرشاد الساري:2/401)
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (هَذِهِ رَحْمَةٌ) ويروى: هَذِه الرَّحْمَة، أَي: أثر رَحْمَة، جعلهَا الله فِي قُلُوب الرُّحَمَاء، وَلَيْسَ من بَاب الْجزع وَقلة الصَّبْر.(عمدة القاري:21/217)
فهذا دليل آخر صحيح يرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمن وهو يواجه الصعاب والابتلاءات في نفسه وأحبابه وواقعه، فهو المسلم لله، الموقن بقضائه وقدره، الصابر المحتسب، الموعود بخير الجزاء والرضا، الذي حاله عجب؛ لحسن سلوكه في السراء والضراء.
مع التنبيه إلى أن الجزع والسخط جراء الإصابة بالجراح والمصائب، لا يرد من وقع المصيبة، ولا يبدل من مستوى ألمها قيد أنملة، سوى فقدان الأجر الموعود للصابرين المحتسبين.
آملين الانتفاع من هذا التذكير كذلك، لبناء النفوس على أساس من عقيدة ثابتة راسخة، تثمر سلوكاً نقياً طاهراً مستقيماً وبخاصة عند مواجهة الخطوب أو المسرات، يترجم بحسن الأداء والاستقامة على أمر الله وشرعه، ونسأله سبحانه أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من مناحي العجب لأمر المؤمن لحسن سلوكه في السراء والضراء، حسب ما روي عن رسولنا وخاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أفضل الصلاة وأتم التسليم.
30 جمادى الآخرة 1445هـ

تاريخ النشر 2024-01-12
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس