.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يوصي بالنساء في خطبة الوداع - الحلقة الثالثة والأخيرة

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مؤمنة، إن كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخَر، أو قال غَيْرَهُ).(صحيح مسلم، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء)
تعرضت الحلقة السابقة للرفق بالنساء، من خلال أمر (الحادي أنجشة) بأن يرفق بالقوارير – يعني النساء-. وكنى عن النساء بالقوارير؛ لرقتهن ولطافتهن وضعف بنيتهن، وهذه الوصية بالنساء عنيت بمشاعرهن ونوازعهن الفطرية والداخلية، والرسول، صلى الله عليه وسلم، أمر المسلمين في خطبة حجة الوداع بأن يتقوا الله في النساء، مما يعني الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن، ومعاشرتهن بالمعروف.
النهي عن بُغْضِ النساء
الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، يوصي بالنساء من خلال النهي عن المسارعة لكرههن، ويضع عليه الصلاة والسلام، معادلة عادلة مقنعة ليأخذ المؤمن المستهدف بهذا الأمر، بقوله: (إن كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخَر) فالإنسان بطبيعته خطاء، وقد تصدر عن المرأة تصرفات أو أقوال يكرهها زوجها، وبموجب المعادلة المذكورة ينبغي للزوج أن يستذكر عند نفوره من سلوك لامرأته إيجابياتها، فمن الإجحاف والظلم التركيز على الخطأ الحاضر، وتجاهل الإيجابيات الأخرى، ومن اللافت أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ذكر في حديثه الشريف هذا خُلُقين للمرأة، أحدهما يكرهه الزوج، والآخر يحبه ويرضاه، بمعنى أن من كانت نسبة رضاه عن امرأته تعادل نسبة كرهه لها، فينبغي له أن يعدل عن كرهها، ولم يرد استخدام لفظ (يفرك) للتعبير عن الكره في أحاديث الصحيحين سوى في هذا النص الكريم، قال ابن المثنى: الفرك البغض.(سنن البيهقي الكبرى:7/295)
وجاء في صحيح مسلم بشرح النووي عن أهل اللغة: فركه بكسر الراء يفركه بفتحها، إذا أبغضه، والفرك بفتح الفاء وإسكان الراء: البغض. قال القاضي عياض: هذا ليس على النهي، بل هو خبر، أي لا يقع منه بغض تام لها، قال: وبغض الرجال للنساء خلاف بغضهن لهم، ولهذا قال: إن كره منها خلقاً رضي منها آخر، ويضعف النووي كلام القاضي، ويقول: بل الصواب أنه نهي؛ أي ينبغي أن لا يبغضها؛ لأنه إن وجد فيها خلقاً يكرهه، وجد فيها خلقاً مرضياً، بأن تكون شرسة الخلق، لكنها دينة، أو جميلة، أو عفيفة، أو رفيقة به، أو نحو ذلك.(صحيح مسلم بشرح النووي:10/58-59)
وفي الآية القرآنية التاسعة عشرة من سورة النساء توجيه رباني ينفر من كره النساء، بعلة أن المرء يمكن أن يكره شيئاً، ويجعل الله فيه خيراً كثيراً، فقال تعالى: {... وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}(النساء:19)
يبين الرازي بأن الضمير في قوله: {فِيهِ} فيه وجهان:
الأول: المعنى أنكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف، فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير، ومن قال بهذا القول فسر الخير الكثير تارة بولد يحصل، فتنقلب الكراهة محبة، والنفرة رغبة، وتارة بأنه لما كره صحبتها، ثم إنه يحمل ذلك المكروه طلباً لثواب الله، وأنفق عليها وأحسن إليها، على خلاف الطبع، استحق الثواب الجزيل في العقبى، والثناء الجميل في الدنيا.
الثاني: أن يكون المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن، فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيراً كثيراً؛ وذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج، وتجد زوجا خيراً منه، ونظيره قوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ}(النساء: 130)، وهذا قول أبي بكر الأصم، قال القاضي: وهذا بعيد؛ لأنه تعالى حث بما ذكر على سبيل الاستمرار على الصحبة، فكيف يريد بذلك المفارقة.(التفسير الكبير:10/11)
معاشرة النساء بالمعروف
أمر الله بمعاشرة النساء والإنفاق عليهن بالمعروف، فقال تعالى: {...وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ}(البقرة:228)
يقول الرازي: إن المقصود من الزوجين لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما مراعياً حق الآخر، وتلك الحقوق المشتركة كثيرة، أحدها: أن الزوج كالأمير والراعي، والزوجة كالمأمور والرعية، فيجب على الزوج بسبب كونه أميراً وراعياً أن يقوم بحقها ومصالحها، ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج. وثانيها: روي عن ابن عباس، أنه قال: (إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي) لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ}. وثالثها: ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة، مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن، وهذا أوفق لمقدمة الآية.(التفسير الكبير: 6/81)
وفي الآية القرآنية التاسعة عشرة من سورة النساء آنفة الذكر أمر بمعاشرة النساء بالمعروف، فيقول تعالى:{...وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...}(النساء:19)
وحتى عند الطلاق وحدوث الانفصال بين الزوجين ينبغي أن يراعى المعروف في معاملة النساء وأداء الحقوق لهن، فقال عز وجل: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ}(البقرة:236)، وقال سبحانه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}(البقرة:241)
يبين الزمخشري أن الأمر هنا بالمتاع عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعدما أوجبها لواحدة منهن، وهي المطلقة غير المدخول بها، وقال: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}(البقرة:241)، كما قال ثمة: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ}(البقرة:236)، وعن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري، أنها واجبة لكل مطلقة، وقيل: قد تناولت التمتيع الواجب والمستحب جميعاً، وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة، والله تعالى أعلم.(الكشاف: 1/317-318)
وبعد الوقوف عند ما تيسر من أبعاد الأمر بمعاشرة النساء والإنفاق عليهن بالمعروف، والنهي عن كرههن في ظل ما لهن من إيجابيات وسلبيات، نختم في هذه المرحلة الحديث عن الأمر بتقوى الله في النساء، وإكرامهن ونبذ العنف ضدهن، في ضوء الهدي القرآني، وسنة النبي الهادي، محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
22 جمادى الأولى 1444هـ

تاريخ النشر 2022-12-16
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس