.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يوصي بالنساء في خطبة الوداع - الحلقة الثانية

==========================================================

عن أَنَسِ بن مَالِكٍ قال: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، في مَسِيرٍ له فَحَدَا الْحَادِي، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: ارْفُقْ يا أَنْجَشَةُ، وَيْحَكَ بِالْقَوَارِيرِ).(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب المعاريض مندوحة عن الكذب)
تعرضت الحلقة السابقة لتعريف مجمل بحجة الوداع التي أوصى الرسول، صلى الله عليه وسلم، في خطبتها بتقوى الله في النساء، وربطت الحلقة ذلك بمناهضة العنف ضد النساء، الذي حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوماً سنوياً له يوافق 25 تشرين ثاني، وأشارت الهيئة العامة للأمم المتحدة إلى العنف ضد المرأة بأنه جائحة عالمية بأشكال عدة، سواء كان جسدياً، أم جنسياً، أم نفسياً، ويطرأ في كل من الأماكن العامة والخاصة، وتمت الدعوة إلى التقيد بالموضوعية والإنصاف ودقة التشخيص عند التطرق لهذه القضية، إذ إن هناك من يهول هذه القضية مقابل من يهونها ويبسطها، وهناك من يستغل قضايا ذات صلة لحملات تحريض ظالمة ضد الرجال أو الأديان والشرائع والقيم، مشيرة إلى أن الإسلام يحارب العنف ضد المرأة، الذي لا يمكن إنكار وجوده في المجتمعات العربية والمسلمة، لكن المسؤولية عن وجوده تحتاج إلى نظر ثاقب وعادل، إذ إن الإسلام بعقيدته وقيمه وشريعته ينبذ العنف ويقاومه، وليس من الحق بحال أن يتم تحميله المسؤولية عن واقع يرفضه وينكره، ومن مبادئ الإسلام أن الأكرم عند الله والأفضل ليس ابن جنس من الناس أو صاحب لون معين، أو الذكر أو الأنثى، إنما الأتقى.
الدعوة للرفق بالنساء
حديث أنس بن مالك المثبت نصه أعلاه يتضمن أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالرفق بالنساء، فأنجشة كان حادياً، وخلال أدائه للحدي في حضرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمره بأن يرفق بالقوارير – يعني النساء-. ومن الروايات الصحيحة التوضيحية أَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (رُوَيْدَكَ يا أَنْجَشَةُ، سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ، قال أبو قِلَابَةَ: يَعْنِي النِّسَاءَ، وفي رواية أخرى أن أَنْجَشَة كان حَسَنَ الصَّوْتِ، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: رُوَيْدَكَ يا أَنْجَشَةُ، لَا تَكْسِرْ الْقَوَارِيرَ، قال قَتَادَةُ: يَعْنِي ضَعَفَةَ النِّسَاءِ).(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب المعاريض مندوحة عن الكذب)
يبين العيني أن (القوارير) جمع قارورة من الزجاج، سميت بها لاستقرار الشراب فيها، وقال ابن الأثير: شبه النساء بالقوارير من الزجاج؛ لأنه يسرع إليها الكسر، وكان أنجشة يحدو وينشد القريض والرجز، فلم يأمن أن يصيبهن أو يقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك، وفي المثل: (الغناء رقية الزنى)، وقيل: أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت، فأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن من شدة الحركة. وقال الرامهرمزي: كنى عن النساء بالقوارير؛ لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية، وقيل سقهن كسوقك القوارير لو كانت محمولة على الإبل، وقيل: شبههن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير يسرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبر. وقال الطيبي: هي استعارة؛ لأن المشبه به غير مذكور، والقرينة حالية لا مقالية، ولفظ الكسر ترشيح لها، والله أعلم.(عمدة القاري: 22/186)
فالوصية بالنساء بهذا بلغت حد العناية بمشاعرهن ونوازعهن الداخلية، على سبيل الرفق والاهتمام ومراعاة الطبيعة الفطرية والخلقية، وكثيراً ما يستذكر العقلاء هذه الوصية خلال الحث على اللطف بالنساء، وتجنب القسوة معهن.
اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ
الرسول، صلى الله عليه وسلم، في خطبة حجة الوداع خاطب المسلمين آمراً، فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه)(صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي، صلى الله عليه وسلم)
يقول الإمام النووي: أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، المسلمين في خطبة حجة الوداع بأن يتقوا الله في النساء، فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن، ومعاشرتهن بالمعروف، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ) هكذا هو في كثير من الأصول، وفي بعضها: (بأمانة الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه) قيل: معناه قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229)، وقيل: المراد كلمة التوحيد، وهي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم، وقيل المراد بإباحة الله، والكلمة قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء:3)، وهذا الثالث هو الصحيح، حسب رأي النووي، وبالأول قال الخطابي والهروي وغيرهما، وقيل: المراد بالكلمة الإيجاب والقبول، ومعناه على هذا بالكلمة التي أمر الله تعالى بها، والله أعلم.( صحيح مسلم بشرح النووي:8/183)
جاء في عون المعبود أن قوله: (فاتقوا الله في النساء) أي في حقهن، والفاء فصيحة، وهو معطوف على ما سبق من حيث المعنى؛ أي اتقوا الله في استباحة الدماء ونهب الأموال وفي النساء، (فإنكم أخذتموهن بأمانة الله) أي بعهده من الرفق وحسن العشرة، (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) أي بشرعه، أو بأمره وحكمه.(عون المعبود:5/263)
سائلين الله العلي القدير العون على متابعة الحديث عن الحث على تقوى الله في النساء، وإكرامهن ونبذ العنف ضدهن، في ضوء الهدي القرآني، وسنة النبي الهادي، محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
15 جمادى الأولى 1444هـ

تاريخ النشر 2022-12-09
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس