عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِي بِاللَّيْلِ)(صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب كيف كان صلاة النبي، صلى الله عليه وسلم؟ وكم كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يصلي من الليل؟)
وقفت الحلقة السابقة عند قيام المسافر من جوف الليل، فكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقوم الليل حتى في السفر، فبعد جمع الصلاة بين المغرب والعشاء في المزدلفة خلال أداء مناسك الحج، أظهر الحديث أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يقوم من جوف الليل، ما يدل على مشروعية أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، وله أن يأخذ بالرخصة، ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت، إلا أن الأخذ بالشدة أفضل، ويعبر عن قيام الليل بألفاظ وصفات دالة عليه، فيقال صلاة الليل، أو الصلاة في جوف الليل، أو صلاة القيام، وما إلى ذلك، والمقصود بذلك كله صلاة القيام التي شرع القيام بها لعموم المسلمين دون إلزامهم بها، فتركت لاختيار العباد، في إطار الحث العام على القيام بالنوافل، وهناك أدعية مأثورة لقيام الليل، ثبتت في صحيح الحديث الشريف، وبالنسبة إلى صلاة الليل جالساً وقائماً، فعلى الرغم من أن القيام ركن من أركان الصلاة، لكن في صلاة التطوع والنافلة، يجوز تركه، وأداء الصلاة والمصلي جالس، ويجوز الجمع بين القيام والجلوس في الركعة الواحدة من صلاة التطوع، ويعني هذا الترخيص لمن أراد الإطالة في القراءة خلال صلاة التطوع، أن يستعين على ذلك بالجلوس، مع التنبيه إلى أن الإطالة هنا كانت في صلاة فردية، أي أن مراعاة أحوال المأمومين في صلاة الجماعة ولو كانت تطوعاً تبقى مطلوبة، واللجوء إلى الجلوس عوضاً عن القيام غالباً ما يرتبط بعذر المشقة بسبب القيام.
عدد ركعات قيام الليل والإطالة فيه
يؤكد ابن عباس، رضي الله عنهما، أن صَلاة النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالليل كانت ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وكان يطيل فيهن القيام، فعَنْ عَبْدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةً، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ، وَأَذَرَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)(صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل)
يبين العيني أن قوله: (حتى هَمَمتُ) أي قصدت، قوله: (بِأَمْرِ سَوْءٍ) يجوز فيه إضافة أمر إلى سوء، ويجوز أن يكون سوء صفة لأمر، وهذا السوء من جهة ترك الأدب، وصورة المخالفة وإن كان القعود جائزاً في النفل مع القدرة على القيام. قوله: (وَأَذَرَ النَّبِيَّ) أي أتركه، أراد أن يقعد، لا أنه يخرج عن الصلاة. (عمدة القاري: 11/287)
قال المهلب: فيه أن مخالفة الإمام أمر سوء كما قال ابن مسعود، وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}(النور: 63) الآية، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم، للذين صلوا خلفه قيامًا، وهو جالس: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ )إلى قوله: (وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا)(صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة)، فينبغي أن يكون ما خالف الإمام من أمر الصلاة وغيرها من سيئ الأعمال. وفي حديث ابن مسعود دليل على طول القيام في صلاة الليل، لأن ابن مسعود أخبر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يزل قائمًا حتى همّ بالقعود، وهذا لا يكون إلا لطول القيام، لأن ابن مسعود كان جلدًا مقتديًا بالرسول، صلى الله عليه وسلم، محافظًا على ذلك. (شرح صحيح البخاري لابن بطال:3/124)
ولما سئلت عَائِشَة، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، (كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي)(صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل، وعدد ركعات النبي، صلى الله عليه وسلم، في الليل، وأن الوتر ركعة، وأن الركعة صلاة صحيحة)
والمراد بقوله: (فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) أي لكمال حسنهن وطولهن، مستغنيات عن السؤال عن وصفهن. (أَنْ تُوتِرَ) تصلي الوتر. (وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) بل هو يقظ حاضر مع الله عز وجل؛ فأملك القيام في أي وقت، وأنتبه قبل فوات وقت الوتر)(صحيح البخاري، الجامع الصحيح المختصر، تعليق د. مصطفى ديب البغا:1/385)
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ)(صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل)
الاعتدال في قيام الليل
إلى جانب التشجيع على التطوع لله بقيام الليل، والإطالة فيه لمن يستطيعها، وعلى منهج الاعتدال والتوازن، فعَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، قَالَ: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ لِي النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ قُلْتُ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ)(صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه)
يبين ابن حجر أن قوْله: (هَجَمَتْ عَيْنُكَ) أي غارت، أو ضعفت لكثرة السهر، و(نَفِهَتْ) أي كلت،(وَإِنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا) أي تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله للإنسان، من الأكل والشرب والراحة التي يقوم بها بدنه؛ ليكون أعون على عبادة ربه، ومن حقوق النفس قطعها عما سوى الله تعالى، لكن ذلك يختص بالتعلقات القلبية، (وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا) أي تنظر لهم فيما لا بد لهم منه من أمور الدنيا والآخرة، والمراد بالأهل الزوجة أو أعم من ذلك ممن تلزمه نفقته.
وقَوْله: (فَصُمْ) أي فإذا عرفت ذلك فصم تارة، (وَأَفْطِرْ) تارة، لتجمع بين المصلحتين، وفي الحديث الحض على ملازمة العبادة؛ لأنه، صلى الله عليه وسلم، مع كراهته له التشديد على نفسه، حضه على الاقتصاد؛ كأنه قال له: ولا يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر أن تضيع حق العبادة، وتترك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما. (فتح الباري:4/145)
وعَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَاً، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لا تَشَاءُ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ)(صحيح البخاري، كتاب لتهجد، باب قيام النبي، صلى الله عليه وسلم، بالليل من نومه، وما نسخ من قيام الليل)
أفضل صلاة النافلة في البيوت
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتَّخَذَ حُجْرَةً - قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ حَصِيرٍ - فِي رَمَضَانَ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا المَكْتُوبَةَ)(صحيح البخاري)
يبين ابن بطال أن قوماً من الفقهاء احتجوا بقعود النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الخروج إلى أصحابه الليلة الثالثة، أو الرابعة، وقالوا: إن صلاة رمضان في البيت للمنفرد أفضل من صلاتها في المسجد، منهم مالك، وأبو يوسف، والشافعي، وقال مالك: كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا في بيته. وذكر ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، وسالم، وعلقمة، والأسود، أنهم كانوا لا يقومون مع الناس في رمضان، واحتج بهذا الحديث بأن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد، لا سيما مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مسجده، وخالفهم آخرون، فقالوا: صلاتها في الجماعة أفضل. قال الليث: لو أن الناس في رمضان قاموا لأنفسهم وأهليهم حتى تترك المساجد، حتى لا يقوم فيها أحد، لكان ينبغي أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد، حتى يقوموا فيه، لأن قيام الناس في رمضان الأمر الذي لا ينبغي تركه، وهو مما سَنَّ عمر بن الخطاب للمسلمين وجمعهم عليه. (شرح صحيح البخاري لابن بطال: 3/119- 120)
وبالقدر الذي تيسر الوقوف عنده من مسائل قيام الليل، التي كان آخرها: بيان عدد ركعات قيام الليل والإطالة فيه، والاعتدال في قيام الليل، وأن أفضل صلاة النافلة في البيوت، نختم الحديث عن موضوع التحفيز على قيام الليل من غير إلزام، عسى أن ينفعنا الله والمتدبرين بما تم عرضه بالخصوص، خاصة بما ثبت بشأنه في صحيح سنة نبينا خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
4 ذو القعدة 1446هـ