.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أمره الله أن ينبه بأن الخبيث والطيب لا يستويان - الحلقة الأولى

==========================================================

يخاطب الله جل في علاه نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، قائلاً: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة:100)
جاء في تفسير القرطبي أن الخبيث والطيب: الحلال والحرام، وقال السدي: المؤمن والكافر، وقيل المطيع والعاصي، وقيل الرديء والجيد، وهذا على ضرب المثال، والصحيح أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصور في المكاسب، والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم، وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح، ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة، وإن كثر، والطيب، وإن قل، نافع جميل العاقبة، قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}(الأعراف:58)
ونظير هذه الآية قوله تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}(ص:28)
وقوله تعالى: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}(الجاثية:21)
فالخبيث لا يساوي الطيب مقداراً، ولا إنفاقاً، ولا مكاناً، ولا ذهاباً؛ فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ جهة الشمال، والطيب في الجنة، والخبيث في النار، وهذا بين، وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة واحدة، ومثله الاستقامة، وضدها الاعوجاج. (تفسير القرطبي:6/327-328)
ومعنى الإعجاب هاهنا السرور بما يتعجب منه.(زاد المسير:2/432- 433)، وذلك أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال، وزينة الدنيا. (تفسير الواحدي:1/337)

تكفل الله بتمييز الخبيث من الطيب
يختلط الطيب بالخبيث أحياناً أو العكس، فيظهر أحدهما في صورة الآخر، أو يلتبس الأمر، فيحتاج إلى توضيح وبيان، وأحياناً يحتاج إلى اختبارات وفحص، وبخاصة حين يتعلق اللبس بالشخوص وصفاتهم، وآياتهم الدالة على مكنوناتهم، لذا اقتضت إرادة الله وحكمته أن يبتلي المؤمنين بالتمحيص، ومما قاله جل شأنه بهذا الشأن: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(آل عمران:179)، أي ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز، حتى يميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، ولم يكن في حكمته أيضاً أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما يتميز به الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل الله رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم.
فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل إلى قسمين، مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين، ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب، وليظهر عدله وفضله وحكمته لخلقه.(تفسير السعدي:1/158)
وفي آية قرآنية أخرى يقول عز وجل: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(الأنفال:37)
ومعنى يميز يفرق بين الخبيث والطيب، والخبيث هنا الكفار، والطيب المؤمنون، وقيل الخبيث ما أنفقه الكفار، والطيب ما أنفقه المؤمنون، {فيركمه} أي يضمه، ويجعل بعضه فوق بعض.(التسهيل لعلوم التنزيل:2/65)

النهي عن تعمد الإنفاق من خبيث المال
الطيب والخبيث يكونان في أشخاص الناس وسلوكهم، ومن ذلك نفقاتهم، فمنها الطيب ومنها الخبيث، لذا أمر الله عز وجل المؤمنين بالإنفاق من الطيبات، ونهاهم عن تحري الخبيث للإنفاق منه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}(البقرة:267)
جاء في التفسير الكبير أن الله تعالى رغّب في الإنفاق، ثم بيّن أن الإنفاق على قسمين، منه ما يتبعه المن والأذى، ومنه ما لا يتبعه ذلك، ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين، وضرب لكل واحد منهما مثلاً يكشف عن المعنى، ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه، ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون، فقال تعالى: {أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}، واختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أنه الجيد من المال، دون الرديء، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة، وعلى هذا التفسير، فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء.
والقول الثاني: وهو قول ابن مسعود ومجاهد، أن الطيب هو الحلال، والخبيث هو الحرام.
ولكل من القولين حججه.(التفسير الكبير:7/53-54)
راجين الله عز وجل أن يكتبنا مع عباده الطيبين، وأن يجنبنا سلوك الخبيثين وشرهم، وأن يوفق لمتابعة الحديث في الحلقة القادمة عن التنبيه بأن الخبيث والطيب لا يستويان، حسب البيان الإلهي الموجه في القرآن الكريم لرسولنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
1 جمادى الأولى 1441هـ

تاريخ النشر 2019-12-27
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس