.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أمره الله أن ينبه بأن الخبيث والطيّب لا يستويان - الحلقة الثانية

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا الناس، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فقال: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا من الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا من طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ، يا رَبِّ يا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)(صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها)
تصدرت الحلقة السابقة آية قرآنية خوطب بها النبي، صلى الله عليه وسلم، ليخبر عن ربه عز وجل بأن الْخَبِيث وَالطَّيِّب لا يستويان، وَلَوْ تم الإعجاب بكَثْرة الخبيث، فالعبرة ليست بالكثرة، وإنما بالطيّب النقي من الخبث، وتم الاستدلال بآيات قرآنية أخرى، تضمنت الدلالة نفسها، فالخبيث لا يساوي الطيّب، من الجهات جميعها، ويختلط الطيّب بالخبيث أحياناً أو العكس، فيظهر أحدهما في صورة الآخر، وأحياناً يحتاج الأمر إلى اختبارات وفحص، وبخاصة حين يتعلق اللبس بالشخوص وصفاتهم الدالة على مكنوناتهم، لذا اقتضت إرادة الله وحكمته أن لا يطلع عباده على الغيب، الذي يعلمه منهم، وأن يبتلي عباده ويفتنهم، بما به يتميز الخبيث من الطيّب، واللذان يكونان في أشخاص الناس وسلوكهم، ومن ذلك نفقاتهم، فمنها الطيّب ومنها الخبيث، فأمرهم الله عز وجل بالإنفاق من الطيبات، ونهاهم عن تحري الخبيث لينفقوا منه.

اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا
في الحديث النبوي المثبت أعلاه تأكيد على أهمية الإنفاق من الطيبات، فالله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيباً، قال القاضي: الطيّب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيّب الزكاة والطهارة، والسلامة من الخبث.(صحيح مسلم بشرح النووي:7/100)
وأمر الله المؤمنين بالأكل من الطيبات، كما أمر الرسل، عليهم السلام، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(المؤمنون:51)
وقوله تعالى: {مّنَ الطَّيّبَاتِ} فيه وجهان، الأول: أنه الحلال، وقيل طيبات الرزق حلال وصاف وقوام، فالحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي الذي لا ينسى الله فيه، والقوام ما يمسك النفس، ويحفظ العقل، والثاني: أنه المستطاب المستلذ من المأكل والفواكه، فبين تعالى أنه أباح لهم أكل الطيبات كما أباح لغيرهم.(التفسير الكبير:23/91)
وقد أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة رسله، عليهم الصلاة والسلام، مع أن الموجود منهم وقت نزولها واحد - وهو نبينا، صلى الله عليه وسلم - بالأكل من الطيبات، وأن يعملوا العمل الصالح، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح، وهو كذلك، وهذا الذي أمر به الرسل في هذه الآية الكريمة، أمر به المؤمنين من هذه الأمة، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(البقرة:172)،(أضواء البيان:5/334)

الأكل من الحرام يحول دون إجابة الدعاء
بعد أن حث الرسول، صلى الله عليه وسلم، على الأكل من الطيبات، بين أن المطعم الحرام يحول دون استجابة دعاء آكل الحرام وشاربه، فذَكَرَ (الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)
يقول النووي: معناه، والله أعلم، أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات كحج، وزيارة مستحبة، وصلة رحم، وغير ذلك، وقوله: (وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ) هو بضم الغين، وتخفيف الذال المكسورة، وقوله: (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) أي؛ من أين يستجاب لمن هذه صفته؟! وكيف يستجاب له؟!
وفي شرح النووي على صحيح مسلم أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي هي قواعد الإسلام، ومباني الأحكام، وفيه الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه، وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره.(صحيح مسلم بشرح النووي:7/100)
والملاحظ على هذا الحديث الشريف أنه أشاد بالطيبات من خلال بيان أن الله طيب، وأنه لا يقبل إلا طيباً، وأن المؤمنين والمرسلين أمروا بالأكل من الطيبات، ثم انتقل للتنفير من الخبائث من خلال تصوير حال الذي يدعو الله متشغفاً للإجابة، إلا أنه يفشل في تحصيلها بسبب الخبائث التي ألمت به، جراء قيام حياته على الإثم والحرام في غذائه وشرابه وملبسه، مما يعني لزوم الحرص على الطيبات واجتناب الخبائث.
يسر الله لنا كسب الطيب والحلال من الأرزاق، وصرف عنا مشارب الإثم والحرام، لنكون ممن يجيب الله دعاءهم، وينصرهم على من عاداهم، ووفقنا عز وجل إلى متابعة الحديث في الحلقة القادمة عن التنبيه بأن الخبيث والطيب لا يستويان حسب الأمر الإلهي الموجه في القرآن الكريم لرسولنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
8 جمادى الأولى 1441هـ

تاريخ النشر 2020-01-03
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس