عن أبي مُوسَى، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إِنَّ مَثَلَ ما بَعَثَنِيَ الله عز وجل من الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَت منها طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَت الْمَاءَ، فَأَنْبَتَت الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وكان منها أَجَادِبُ، أَمْسَكَت الْمَاءَ، فَنَفَعَ الله بها الناس، فَشَرِبُوا منها، وَسَقَوْا، وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً منها أُخْرَى، إنما هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ من فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ الله بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ من لم يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، ولم يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بِهِ)(صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي، صلى الله عليه وسلم، من الهدى والعلم)
في إطار التنبيه بأن الخبيث والطيب لا يستويان، وقفت الحلقة السابقة عند نموذج لنفس طيبة وأخرى خبيثة، فالذي يؤدي صلاة الفجر يصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، أما الذي يستسلم للنوم، وتفوته صلاة الفجر، يصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ، ومن متعلقات افتراق الطيب عن الخبيث، النهي عن استبدال الخبيث بالطيب، كما جاء في عدد من الآيات القرآنية.
طائفة طيبة وأخرى قيعان
يؤكد الحديث الشريف أعلاه، المعنى الذي دل عليه قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}(الأعراف: 58)، حيث تم التفريق بين البلد الطيب والبلد الخبيث، وحسب المشهور المثبت في الحلقة السابقة؛ فإن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، حيث شبه نزول القرآن بنزول المطر، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة، التي نزل عليها المطر، فيحصل فيها الإنبات والإثمار، وأما الأرض السبخة، فهي وإن نزل المطر عليها، لم يحصل فيها من النبات، إلا النزر القليل.
والرسول، عليه الصلاة والسلام، يقارن بين طائفتين حسب موقفيهما مما بعثه الله به من الهدى والعلم، فشبه إحداهما بغَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ منها طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وكان منها أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ، فَنَفَعَ الله بها الناس، فَشَرِبُوا منها، وَسَقَوْا، وَرَعَوْا، أما الطائفة الأخرى فهِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ من فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَ به النبي، عليه الصلاة والسلام، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ من لم يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، ولم يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِل بِهِ، عليه الصلاة والسلام.
الطيبات للطيبيين والخبيثون للخبيثات
من المقارنات التي أجراها القرآن الكريم بين الطيب والخبيث، في سياق الإشادة بالطيب، وذم الخبيث، تلك المزاوجة بين الشرائح المنسجمة من الصنفين، فقال جل في علاه:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(النور:26)
يقول الفخر الرازي: اعلم أن الخبيثات تقع على الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، وتقع أيضاً على الكلام الذي هو كالذم واللعن، ويكون المراد من ذلك لا نفس الكلمة التي هي من قبل الله تعالى، بل المراد مضمون الكلمة، وتقع أيضاً على الزواني من النساء، وفي هذه الآية كل هذه الوجوه محتملة، فإن حملناها على القذف الواقع من أهل الإفك، كان المعنى الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس، والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال، وبالعكس، وإن حلمناها على الكلام الذي هو كالذم واللعن، فالمعنى أن الذم واللعن معدان للخبيثين من الرجال، والخبيثون منهم معرضون للعن والذم، وكذا القول في الطيبات، وأولئك إشارة إلى الطيبين، وأنهم مبرءون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات، وإن حملناه على الزواني، فالمعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وبالعكس، على معنى قوله تعالى:{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً}(النور:3)، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والمعنى أن مثل ذلك الرمي الواقع من المنافقين، لا يليق إلا بالخبيثات والخبيثين،
لا بالطيبات والطيبين، كالرسول، صلى الله عليه وسلم، وأزواجه.(التفسير الكبير:23/169)
إباحة الطيبات وتحريم الخبائث
في إطار الثناء على الطيب وذم الخبيث، بين سبحانه أن من ميزات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وخصائصه، أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، فقال عز وجل:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ...}(الأعراف:157)
رجح الرازي في تفسيره أن المراد بالطيبات هنا الأشياء المستطابة بحسب الطبع؛ وذلك لأن تناولها يفيد اللذة، والأصل في المنافع الحل، فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس، ويستلذه الطبع الحل، إلا لدليل منفصل، والمراد بالخبائث كل ما يستخبثه الطبع، وتستقذره النفس، وما كان تناوله سبباً للألم، والأصل في المضار الحرمة، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع، فالأصل فيه الحرمة، إلا لدليل منفصل.(التفسير الكبير:15/21-22)
وبالحديث عن إباحة الطيبات وتحريم الخبائث، نختم في هذه المرحلة الحديث عن التنبيه بأن الخبيث والطيب لا يستويان، حسب الأمر الإلهي الموجه في القرآن الريم لرسولنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
6 جمادى الآخرة 1441هـ