.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أمره الله والناس والمؤمنين بالتقوى - الحلقة الثانية

==========================================================

يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ}(لقمان: 33)
تعرضت الحلقة السابقة لأمر الله سبحانه نبيه، صلى الله عليه وسلم، بالتقوى، وذلك في الآية الأولى من سورة الأحزاب، والتي نهاه فيها كذلك عن طاعة الكافرين والمنافقين، والأمر بالتقوى يعني الأمر بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه، ولأهمية التقوى أمر الله بها نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأمر بها كذلك الناس والمؤمنين، ومن وجوه أمر الله سبحانه نبيه، صلى الله عليه وسلم، بالتقوى، أنه أمر بالمداومة على ما هو عليها منها، فهو كل لحظة كان يزداد علمه ومرتبته، فكان له في كل ساعة تقوى متجددة، وقيل: إن وجوه التقوى مختلفة؛ فمتق بجهل، ومتق بعلم، ومتق بعجب، ومتق برؤية قيام الله تعالى على عباده، ومتق اتقاه عن كل ما سواه، وقال بعضهم: أفضل العبادة التقوى؛ فإنه الطريق إلى الله، والوسيلة به.

أمر الناس بالتقوى
تكرر أمر الناس بالتقوى في أكثر من آية قرآنية كريمة، منها في فاتحتي سورتي النساء والحج، وفي الآية القرآنية الكريمة من سورة لقمان المثبت نصها أعلاه، يأمر رب البرية الناس بالتقوى، جاء في تفسير أبي السعود، أن قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} خطاب يعم حكمه المكلفين عند النزول، والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة، ولفظ {النَّاسُ} ينتظم الذكور والإناث حقيقة، والمأمور به مطلق التقوى، الذي هو التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك، والتربية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر، وتأكيد إيجاب الامتثال به، ترهيباً وترغيباً، أي احذورا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.(تفسير أبي السعود 6/91)
ويذكر الرازي أن حقيقة التقوى جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعاً، والإخلاص خامساً.(التفسير الكبير، 2/20)
ويقول في موضع آخر من تفسيره: اعلم أنه تعالى أمر الناس بالتقوى، فدخل فيه أن يتقي كل محرم، ويتقي ترك كل واجب، وإنما دخل فيه الأمران؛ لأن المتقي إنما يتقي ما يخافه من عذاب الله تعالى، فيدع لأجله المحرم، ويفعل لأجله الواجب، ولا يكاد يدخل فيه النوافل؛ لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب، وإنما يرجو بفعلها الثواب، فإذا قال: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} فالمراد اتقوا عذاب ربكم.(التفسير الكبير، 23/3)

الأمر بالتقوى وخشية يوم القيامة
جاء أمر الناس بالتقوى في آية سورة لقمان المثبتة أعلاه مقترناً بأمرهم بخشية يوم الدين، {يوم لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}، ويفسر الرازي الوعظ بالتقوى هنا، أنه تعالى لما كان واحداً أوجب التقوى البالغة، فإن من يعلم أن الأمر بيد اثنين لا يخاف أحدهما، مثل ما يخاف لو كان الأمر بيد أحدهما لا غير، ثم أكد الخوف بذكر اليوم الذي يحكم الله فيه بين العباد، ثم أكده بقوله:{لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ}وذلك لأن المجرم إذا علم أن له عند الملك من يتكلم في حقه، ويقضي ما يخرج عليه برفد من كسبه، لا يخاف مثل ما يخاف إذا علم أنه ليس له من يقضي عنه ما يخرج عليه، ثم ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة، وهما الوالد والولد، ليستدل بالأدنى على الأعلى، وذكر الولد والوالد جميعاً فيه لطيفة، وهي أن من الأمور ما يبادر الأب إلى التحمل عن الولد كدفع المال، وتحمل الآلام، والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد، ومنها ما يبادر الولد إلى تحمله عن الوالد، ولا يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد، كالإهانة، فإن من يريد إحضار والد أحد عند وال أو قاض يهون على الابن أن يدفع الإهانة عن والده، ويحضر هو بدله، فإذا انتهى الأمر إلى الإيلام، يهون على الأب أن يدفع الإيلام عن ابنه، ويتحمله هو بنفسه، فقوله تعالى: {لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} في دفع الآلام، {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} في دفع الإهانة، وفي قوله: {لاَّ يَجْزِي} وقوله: {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ}لطيفة أخرى، وهي أن الفعل يتأتى وإن كان ممن لا ينبغي، ولا يكون من شأنه؛ لأن المرء إذا كان يخيط شيئاً يقال إنه يخيط، ولا يقال هو خياط، وكذلك من يحيك شيئاً، ولا يكون ذلك صنعته، يقال هو يحيك، ولا يقال هو حائك، إذا علم هذا فالابن من شأنه أن يكون جازياً عن والده؛ لما له عليه من الحقوق، والوالد يجزي لما فيه من الشفقة، وليس بواجب عليه ذلك، فقال في الوالد لا يجزي، وقال في الولد {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ).(التفسير الكبير، 25/143)
فهذه وقفة أخرى مع بعض مناحي الأمر الرباني بالتقوى، عسى أن ييسر العلي القدير متابعة الوقوف عند مزيد منها، وأن يشرح الله صدورنا لهداه، وأن يلهمنا تقواه، لننال حبه سبحانه ورضاه، وحب نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
16 جمادى الآخرة 1443هـ

تاريخ النشر 2021-01-29
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس