.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أمره الله والناس والمؤمنين بالتقوى - الحلقة السابعة

==========================================================

يقول رب البرية جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الحديد:28)
في سياق استدلال الحلقة السابقة بشواهد دالة على تركيز الأنبياء، عليهم السلام، على أمر أقوامهم بالتقوى، فإنها أشارت إلى أمر عيسى، عليه السلام، الحواريين بالتقوى، وبخاصة حين سألوه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، كما في الآية القرآنية الكريمة 112 من سورة المائدة، والتقوى التي أمر الله عز وجل بها رسوله محمداً، صلى الله عليه وسلم، وإخوانه النبيين والمؤمنين والناس أجمعين، خصص الله لأهلها جزاء ومثوبة جزيلة، ينعمون بها في الدنيا والآخرة.

ثمار التقوى
الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية على ثمار التقوى كثيرة، منها المبين في الآية القرآنية الكريمة 28 من سورة الحديد، والمثبت نصها أعلاه، والتي تشير إلى شيء كريم من جزاء المتقين، يفسر الإخبار العام عنه، كالذي في قوله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} (محمد:36)
ويدل ظاهر الأمر بتقوى الله في الآية الكريمة، على أنه عام لجميع هذه الأُمّة. (أضواء البيان 6/236)، ويرى بعض المفسرين أنه موجه للمؤمنين من أهل الكتاب، ففي التفسير الكبير أن معنى قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي نصيبين من رحمته، لإيمانكم أولاً بعيسى، وثانياً بمحمد، عليه الصلاة والسلام، ونظيره قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} (القصص:54)
وبهذا الصدد طرح الرازي تساؤلاً حول إيتائهم كفلين، وإيتاء المؤمنين كفلاً واحداً، وأجاب بأنه لا يبعد أن يكون النصيب الواحد، أزيد قدراً من النصيبين، فإن المال إذا قسم بنصفين، كان الكفل الواحد نصفاً، وإذا قسم بمائة قسم، كان الكفل الواحد جزءاً من مائة جزء، فالنصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من عشرين نصيباً من القسمة الثانية، فكذا ها هنا، ثم قال تعالى: {وَيَجْعَل لَّكُمْ} أي يوم القيامة، {نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} وهو النور المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الحديد:12) {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما أسلفتم من المعاصي، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. (التفسير الكبير، 29 /215)
ومن أدلة مثوبة المتقين في الدارين، قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)، فالله أعد جزاء واسعاً للمحسنين من المتقين، ففي الدنيا لهم حسنة، ويوفون أجرهم في الآخرة بغير حساب.
جاء في التسهيل لعلوم التنزيل، أن قوله تعالى: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} يحتمل أن يتعلق بأحسنوا، والمعنى أن الذين أحسنوا في الدنيا لهم حسنة في الآخرة، أو يتعلق بحسنة، والحسنة على هذا حسن الحال، والعافية في الدنيا، والأول أرجح.(التسهيل لعلوم التنزيل، 3/192-193)
والله سبحانه يُبكت الذين لم يؤمنوا، ولم يتقوا من أهل الكتاب، لتفويتهم فرصة عظيمة لمغفرة ذنوبهم، ودخولهم جنات النعيم، فيقول عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (المائدة:65)

الآخرة خير لمن اتقى
أعد الله لأهل الجنة من النعيم الجزيل، ما يعجز الناس في دنياهم عن إدراك كنهه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا مجال لمقارنة نعيم الآخرة بملذات الدنيا مهما تعاظمت، فهو خير لمن اتقى، مصداقاً لقوله عز وجل: {.. قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء:77)
وقد جاء هذا البيان القرآني المبين لتفوق متاع الآخرة المعد للمتقين، في سياق الرد على موقف المتخاذلين الذين خشوا الناس أشد من خشية الله، حسب المبين في صدر الآية الكريمة، حيث يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء:77)
وقد استنبط الرازي وجوهاً لتفوق نعيم الآخرة على متاع الدنيا، وهي: أن نِعم الدنيا قليلة، ونِعم الآخرة كثيرة، والثاني أن نِعم الدنيا منقطعة، ونِعم الآخرة مؤبدة، والثالث أن نِعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره، ونِعم الآخرة صافية عن الكدرات، والرابع أن نِعم الدنيا مشكوكة؛ فإن أعظم الناس تنعماً لا يعرف كيف تكون عاقبته في اليوم الثاني، ونِعم الآخرة يقينية، وكل هذه الوجوه تجب رجحان الآخرة على الدنيا، إلا أن هذه الخيرية إنما تحصل للمؤمنين المتقين، فلهذا المعنى ذكر تعالى هذا الشرط، وهو قوله: {لِمَنِ اتَّقَى}. (التفسير الكبير، 10/149)
فهذه وقفة أخرى مع بعض مناحي الأمر الرباني بالتقوى، والمثوبة الموعودة من الله عليها، عسى أن ييسر الله العلي القدير ختم الوقوف عند مزيد من ثمار التقوى، ونسأله سبحانه، أن يشرح صدورنا لهداه، وأن يلهمنا تقواه، لننال حبه سبحانه ورضاه وحب نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
27 رجب 1442هـ

تاريخ النشر 2021-03-12
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس