يقول عز وجل:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ}(الزمر:20)
وقفت الحلقة السابقة عند بعض ثمار التقوى المستنبطة من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن خلالها بكّت الله الذين لم يؤمنوا ولم يتقوا؛ لتفويتهم فرصة عظيمة لمغفرة ذنوبهم، ودخولهم جنات النعيم، ومن جزاء المتقين، الذي أخبرت عنه آيات التنزيل، أن الله وعدهم بكِفْلَيْنِ مِن رحْمَتِهِ، وأن َيَجْعَل لَّهم نُوراً يَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَهمْ، كما جاء في الآية الكريمة 28 من سورة الحديد.
والله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى، وبين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد، فقال تعالى:{للَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ}(النحل: 30)، ومعنى الحسنة هنا دخول الجنة، وقيل: هي للتعظيم؛ يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها.
وثمار التقوى تتوج بفوز أهلها بنعيم الآخرة، التي هي خير لهم وأبقى، وهذا التفوق في الخيرية لصالح نعيم الآخرة، يبرز من وجوه عدة، من ناحية القلة والكثرة، والانقطاع والديمومة، والتلبس بالهموم والكدر، والصفاء من ذلك، والشك واليقين، والخيرية في ذلك إنما تحصل للمتقين.
للمتقين غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ
وعد الله المتقين بجزيل المثوبة، ومن ذلك وعدهم بغرف من فوقها غرف في الجنة، مصداقاً لقوله تعالى في الآية العشرين من سورة الزمر المثبت نصها أعلاه، والمتحدث عنهم فيها هم الذين خوطبوا في الآيات السالفة من السورة نفسها بقوله تعالى:{...يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}(الزمر:16) وبقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ...}(الزمر:10)
فالمتقون لهم درجات عالية في جنات النعيم، بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم؛ أي لهم علالي بعضها فوق بعض، {مبنية} بناء المنازل المبنية، المؤسسة على الأرض في الرصانة والإحكام،
{تجري من تحتها} من تحت تلك الغرف، {الأنهار} من غير تفاوت بين العلو والسفل.(تفسير أبي السعود:7/249)
وقد ذكر القرآن الكريم الغرف في سياق بيان المثوبة الآخروية في أربع آيات قرآنية، منها الآية سالفة الذكر من سورة الزمر، وفي ثلاث آيات أخر، ففي سورة الفرقان يقول تعالى:{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً}(الفرقان:75) وفي سورة العنكبوت يقول جل ذكره:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (العنكبوت:58) وفي سورة سبأ، يقول سبحانه:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}(سبأ:37)
فالغرف الموعودة لأهل الجنة في الآخرة، هي غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وهم فيها آمنون، والغرفة في اللغة العلية، وكل بناء عال فهو غرفة، والمراد به الدرجات العالية، وقال المفسرون الغرفة اسم الجنة، فالمعنى يجزون الجنة، وهي جنات كثيرة.(التفسير الكبير:24/101) وذكرت الغرف بصيغة الجمع في ثلاث آيات، وبصيغة المفرد في آية الفرقان، يقول الشنقيطي: الظاهر أن المراد بالغرفة في هذه الآية الكريمة جنسها.(أضواء البيان:6/81)
وبالنسبة إلى قوله تعالى في وصف الغرف:{مَّبْنِيَّةٌ} يبين الرازي أن المنزل إذا بني على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني، فقوله:{مَّبْنِيَّةٌ}معناه: وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل، والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة،ومنقصة، أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع، ونقصانه الرخاوة والسخافة، وأما التحتاني فبالضدمنه، أما
منازل الجنة، فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل، وهي عالية مرتفعة، وتكون في غاية القوة والشدة.(التفسير الكبير:26/229)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً
من بين الوعود الربانية للمتقين، أن يساقوا إلى الجنة زمراً، مصداقاً لقوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر:73)، فالمتقون حسب الآية الكريمة يساقون إلى الجنة الموعودة زمراً، أي جماعة بعد جماعة، المقربون ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضاً.(تفسير ابن كثير:4/66)
وحول أن السوق في أهل النار للعذاب معقول؛ لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب والشقاوة لا بدّ وأن يساقوا إليه، وأما أهل الثواب، فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع الكرامة والراحة والسعادة، فأي حاجة فيه إلى السوق؟ يجيب الرازي عن هذا التساؤل من وجوه، منها: أن أهل الجنة وأهل النار يساقون، إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف، كما يفعل بالأسير إذ سيق إلى الحبس والقيد، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك، فشتان ما بين السوقين.(التفسير الكبير:27/20)
فهذه وقفة أخرى مع بعض مناحي الأمر الرباني بالتقوى، والمثوبة الموعودة من الله عليها، عسى أن ييسر الله الوقوف عند مزيد من ثمار التقوى،وأن يشرح سبحانه صدورنا لهداه، ويلهمنا تقواه، لننال حبه ورضاه، وحب نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
5 شعبان 1442هـ