يخاطب الله جل في علاه، نبيه الكريم محمداً، صلى الله عليه وسلم، في سورة الفلق، فيقول عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ*مِن شَرِّ مَا خَلَقَ* وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ* وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ* وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}(سورة الفلق)
سُورَةُ الفَلَق
سورة الفلق مدنية، وقيل إنها مكية، وهي أربعة وسبعون حرفاً، وثلاث وعشرون كلمة، وخمس آيات.(الكشف والبيان: 10/337) وهي الثالثة عشر بعد المائة، أي قبل الأخيرة في ترتيب السور في المصحف الشريف، عنونها البخاري في "صحيحه" "سُورَةُ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" بإضافة سورة إلى أول جملة منها. وجاء في بعض كلام الصحابة تسميتها مع سورة الناس "المعوذتين". وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير "سورة الفلق". (التحرير والتنوير:30/545)
ومن دلائل بركتها ومنزلتها في دين الله، ما روته عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ".(صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات)
وعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قِيلَ لِي فَقُلْتُ. فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".(صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {الله الصمد}(الإخلاص:2))
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؛ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}). (صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة المعوذتين)
الاستعاذة برب الفلق
قول الحق جلّ جلاله: {قلْ} يا محمد {أعوذُ بربِّ الفلقِ} أي: أتحصّن وأستجيرُ برب الفلق. وفي تعليق العياذ بالرب، المضاف إلى الفلق، المنبئ عن النور بعد الظلمة، وعن السعة بعد الضيق، والفتق بعد الرتَق، عِدَة كريمة بإعاذة العامة مما يتعوّذ منه، وإنجائه منه، وفَلْق ما عقد له من السحر وانحلاله عنه، وتقوية رجائه بتذكير بعض نظائره، ومزيد ترغيب في الاعتناء بقرع باب الالتجاء إلى الله تعالى. (البحر المديد:8/558)
يبين عبد الكريم الخطيب أن العياذ إنما يكون من الشرور والمكاره التي يلقاها الإنسان على طريق حياته، وهي تتوارد على الإنسان من المخلوقات، سواء أكانت من عالم الأحياء أم غير الأحياء، وسواء أكانت منظورة معلومة، أم خفية مجهولة.. ولهذا جاء قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ}(التفسير القرآني للقرآن:3/178)
ويذكر الشنقيطي عن أَبي حَيَّانَ وَغَيْره: أن الْفَلَقُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَفْلُوقٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِك، فَقِيلَ: إِنَّهُ الصُّبْحُ يَتَفَلَّقُ عَنْهُ اللَّيْلُ. وَقِيلَ: الْحِسُّ وَالنَّوَى. وَقِيلَ: هُوَ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ.
وعن بَعْض الْمُفَسِّرِينَ: أنه كُلُّ مَا فَلَقَهُ اللَّهُ عَنْ غَيْرِهِ؛ كَاللَّيْلِ عَنِ الصُّبْحِ، وَالْحَبِّ وَالنَّوَى عَنِ النَّبْتِ، وَالْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ، وَالْجِبَالِ عَنِ الْعَوْنِ، وَالْأَرْحَامِ عَنِ الْأَوْلَادِ، وَالسَّحَابِ عَنِ الْمَطَرِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ، فَتُطْلَقُ كَذَلِكَ كَمَا أَطْلَقَ. ويرجح الشنقيطي أَنَّ كُلَّ الْأَقْوَالِ مَا عَدَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ التَّنَوُّعِ، وَأَنَّهَا كُلَّهَا مُحْتَمَلَةٌ، ويبين أن الْقَوْل بِأَنَّهُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ، لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَصٌّ، وَلَيْسَتْ فِيهِ أَيّ مُشَاهَدَةٍ يُحَالُ عَلَيْهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ الْأُخْرَى الْمُشَاهَدَةِ. وَيذكر أن الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ هُوَ الْأَوَّلُ، كَمَا جَاءَ النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي الصُّبْحِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام: 95-96)
وَكُلُّهَا آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: (وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ). (صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم)
وَالْفَلَقُ: بِمَعْنَى الصُّبْحِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا لَيْلَةً لَمْ أَنَمْهَا بِتُّ مُرِتَقِبًا ... أَرْعَى النُّجُومَ إِلَى أَنْ قَدَّرَ الْفَلَقُ (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:9/158-159)
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ
بعد الأمر الرباني بالاستعاذة برب الفلق، ذكر المتعوَّذ منه، فقال تعالى: {من شرِّ ما خَلَقَ} أي من الثقلين وغيرهم، كائناً ما كان، وهذا شامل للشرور الجمادية، والحيوانية، والسماوية جميعها؛ كالصواعق وغيرها. وإضافة الشر إليه، أي: إلى كل ما خلق؛ لاختصاصه بعالَم الخلق، المؤسس على امتزاج المراد المتباينة، وتفاصيل كيفياتها المتضادة المستتبعة للكون والفساد في عالَم الحكمة، وأمّا عالَم الأمر فهو منزّه عن العلل والأسباب، المراد به: كن فيكون.(البحر المديد:8/559)
وفي الشر المستعاذ منه هنا وجهان: أحدهما: أنه محمول على عمومه في كل شر.
الثاني: أنه خاص في الشر الذي يستحق المصاب به الثواب.(النكت والعيون:6/374)
ويبين الشنقيطي أن قَوْلهُ تَعَالَى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} عَامٌّ وَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ إِبْلِيسَ وَجَهَنَّمَ مِمَّا خَلَقَ. وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ حَوْلَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا خَلَقَهُ وَقَدَّرَهُ؟ وَأُجِيبَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (...وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)(صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود)، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {...قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(الرعد:16)(أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:9/159)
من شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
يبين ابن جزي في التسهيل أن في: {ومن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ثمانية أقوال:
الأول: أنه الليل إذا أظلم، ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ...}(الإسراء:78)، وهذا قول الأكثرين؛ لأن ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر من الإنس والجن، ولذلك قال في المثل: الليل أخفى للويل.
الثاني: أنه القمر، ووقوبه هذا كسوفه؛ لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة والسواد، وبمعنى الدخول، فالمعنى إذا دخل في الكسوف، أو إذا أظلم به.
الثالث: أنه الشمس إذا غربت، والوقوب على هذا المعنى الظلمة أو الدخول.
الرابع: أن الغاسق النهار إذا دخل في الليل، وهذا قريب من الذي قبله.
الخامس: أن الغاسق سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده.
السادس: أنه الذكر إذا قام، حكى النقاش هذا القول عن ابن عباس.
السابع: قال الزمخشري: يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات، ووقبه ضربه.
الثامن: أنه إبليس حكى ذلك السهيلي.(التسهيل لعلوم التنزيل:3/375-376)
وقوله تعالى: {ومن شَرِّ غَاسِقٍ} تخصيص لبعض الشرور بالذكر، مع اندراجه فيما قبله؛ لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه؛ لكثرة وقوعه؛ ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاعتناء بالاستعاذة، وأدعى إلى الإعاذة، أي ومن شر ليل معتكر ظلامه.(تفسير أبي السعود:9/214)
من شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ
يبين عبد الكريم الخطيب أن النفاثات: من النّفث، وهو النّفخ بالفم في الشيء.. وهو جمع نفّاثة، مبالغة في النّفث، أي كثير النّفث، مثل علّامة، وفهّامة.. ويجوز أن يكون جمع مؤنث..
والعُقدُ: جمع عُقْدة، وهي ما يعقد بها على الشيء لربطه وإحكامه، ومنه اليمين المنعقدة، وهي التي تقع عن نية وقصد، ومنه عقد البيع الذي يتم بين المتبايعين، وعُقْدة النكاح التي تتمّ بين الزوجين.(التفسير القرآني للقرآن:3/178)
والنفاثات في العقد هن الساحرات المؤاخذات المهيجات، اللواتي ينفثن في العقد. (بحر العلوم:3/610)
أي هن اللاتي يستعن على سحرهن بالنفث في العقد، التي يعقدنها على السحر. (تفسير السعدي:937)
من شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ
يعتقد بعض الناس بتأثير الحسد وعيون الحاسدين. فإذا كان لأحدهم ولد أو بستان أو دابة محببة فأصيب أحدها بعارض مفاجئ فسروه بعين أصابته وحسود حسده. وعلى هذا فالمتبادر أن الهدف الذي استهدفته السورة هو تثبيت فكرة القدرة. (التفسير الحديث:774)
يبين الماوردي أن الحسد هو تمني زوال نعمة المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل، فالحسد شر مذموم، والمنافسة رغبة مباحة. وفي الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد وجهان: أحدهما: من شر نفسه وعينه، فإنه ربما أصاب بها فعان وضر، والمعيون المصاب بالعين، وقال الشاعر:
قد كان قومُك يَحْسبونك سيّداً وإخال أنك سيدٌ مَعْيونُ
الثاني: أن يحمله فرط الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فإنه يتبع المساوئ، ويطلب العثرات، وقد قيل إن الحسد أول ذنب عُصِيَ اللهُ به في السماء والأرض، فحسد إبليس آدم حتى أخرجه من الجنة، وأما في الأرض فحسد قابيل بن آدم أخاه هابيل حتى قتله، نعوذ بالله من شر ما استعاذنا منه. (النكت والعيون:6/376-377)
ويبين الرازي أن الحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه، ولا يكاد يكون كذلك إلا ولو تمكن من ذلك بالحيل لفعل، فلذلك أمر الله بالتعوذ منه. (تفسير الرازي - مفاتيح الغيب-:32/179)
درس إيماني عملي من سورة الفلق
يُتعلم من سورة الفلق أن استدفاع الشرور يكون من الله، ومَنْ صَحَّ توكُّلُه على الله فهو الذي صحَّ تحقُّقُه بالله، فإذا توكَّلَ لم يُوَفِّقْه اللَّهُ للتوكُّلِ إلاَّ والمعلومُ من حاله أنه يكفيه ما توكَّلَ به عليه؛ وإنَّ العبدَ به حاجةٌ إلى دَفْعِ البلاء عنه، فإن أخَذَ في التحرُّز من تدبيره وحَوْله وقُوَّته، وفَهْمِه وبصيرته في كلِّ وقتٍ، استراح من تعب تردُّدِ القلبِ في التدبير، وعن قريبٍ يُرَقَّى إلى حالة الرضا، كُفِيَ مُرَادَه أم لا. وعند ذلك الملك الأعظم، فهو بظاهره لا يفتر عن الاستعاذة، وبقلبه لا يخلو من التسليم والرضا، فنعوذ برب الفلق تأسياً بنبينا الأسوة محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
27 ربيع الأول 1447هـ